الأربعون القصصية من السنة النبوية
باب ما جاء في وجوب التوبة
شرح الحديث الثالث
يقول العبد الفقير، ذو العجز والتقصير،
أبو عبدالرحمن حاتم بن محمد بن عبدالعزيز آل شلبي الفلازوني، أخبرنا شيخنا
العلامة المعمر الشيخ عبدالرحمن بن عبدالحي الكتاني: أخبرنا والدي عبدالحي
مرارًا، قال: أخبرنا والدي عبدالكبير الكتاني مرارًا، أخبرنا علي بن ظاهر
الوتري، أخبرنا عبدالغني بن أبي سعيد الدهلوي، ح) وأخبرنا عاليًا "الشيخ
العلامة المعمر محمد ظهير الدين المباركفوري سماعًا" عليه بقراءة غيري،
وشيخنا الشيخ المعمر محمد أكبر الفاروقي إجازة، كلاهما قال: حدثنا أحمد
الله بن أمير الله الدهلوي، حدثنا نذير حسين بن جواد علي الدهلوي...
قال هو وعبدالغني بن أبي سعيد الدهلوي: حدثنا محمد إسحاق الدهلوي، قال: حدثنا جدي لأمي عبدالعزيز بن أحمد الدهلوي قال[1]:
أخبرنا أبي أحمد بن عبدالرحيم الدهلوي [الشهير بولي الله الدهلوي]، حدثنا
أبو طاهر الكوراني، حدثنا حسن العجيمي، حدثنا عيسى الثعالبي الجعفري، حدثنا
سلطان المزاحي، حدثنا أحمد بن خليل السبكي، حدثنا النجم محمد الغيطي،
حدثنا زكريا الأنصاري، حدثنا إبراهيم بن صدقة الحنبلي، حدثنا عبدالوهاب بن
رزين الحموي، حدثنا أحمد بن أبي طالب الحجار لجميعه، وست الوزراء وزيرة بنت
عمر التنوخية، قالا: حدثنا الحسين بن المبارك الزبيدي، حدثنا أبو الوقت
عبدالأول بن عيسى السجزي الهروي، حدثنا عبدالرحمن بن محمد الداودي
البوشنجي، حدثنا عبدالله بن أحمد بن حمويه السرخسي، حدثنا محمد بن يوسف بن
مطر الفربري، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري[2] - وسمع الصحيح عليه مرتين لجميعه - قال: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا أبو شهاب، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن الحارث بن سويد، حدثنا عبدالله بن مسعود حديثين، أحدهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر عن نفسه، قال:
"إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل
يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه"، فقال به هكذا،
قال أبو شهاب: بيده فوق أنفه، ثم قال: ((لله أفرح بتوبة عبده من رجل نزل
منزلًا وبه مهلكة ومعه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومةً،
فاستيقظ وقد ذهبت راحلته، حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله،
قال: أرجع إلى مكاني، فرجع فنام نومةً، ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده)).
قال أبو عبدالله: تابعه أبو عوانة، وجرير،
عن الأعمش، وقال أبو أسامة: حدثنا الأعمش، حدثنا عمارة، سمعت الحارث، وقال
شعبة: وأبو مسلم اسمه عبيدالله، كوفي قائد الأعمش، عن الأعمش، عن إبراهيم
التيمي، عن الحارث بن سويد، وقال أبو معاوية: حدثنا الأعمش، عن عمارة، عن
الأسود، عن عبدالله، وعن إبراهيم التيمي، عن الحارث بن سويد عن عبدالله)،
صحيح البخاري: ج5/ ص2324، ح5949.
قلت: والحديث رواه الإمام مسلم[3]،
إلا أنه ترك الجزء الموقوف على ابن مسعود رضي الله عنه، واكتفى بالجزء
المرفوع من الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد في آخره: ((فالله
أشد فرحًا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته))[4].
التعليق والشرح:
قصة الحديث:
يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلًا كان بأرض فلاة [5]،
ليس حوله أحد، لا ماء ولا طعام ولا أناس، ضل بعيره؛ أي: ضاع، فجعل يطلبه
فلم يجده، فذهب إلى شجرة ونام تحتها ينتظر الموت، قد أيس من بعيره، وأيس من
حياته؛ لأن طعامه وشرابه على بعير، والبعير قد ضاع.
فبينما هو كذلك إذا بناقته عنده، قد تعلق
خطامها بالشجرة التي هو نائم تحتها، فبأي شيء تقدرون هذا الفرح؟! هذا الفرح
لا يمكن أن يتصوره أحد، إلا من وقع في مثل هذه الحال؛ لأنه فرح عظيم، فرح
بالحياة بعد الموت؛ ولهذا أخذ بالخطام فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أراد
أن يثني على الله فيقول: اللهم أنت ربي وأنا عبدك، لكن من شدة فرحه أخطأ
فقلب القضية.
معنى التوبة لغة:
قال الزبيدي في التاج: "أناب ورجع عن المعصية إلى الطاعة، وهو تائب وتواب: كثير التوبة والرجوع".
وفي اللسان لابن منظور: "التوبة: الرجوع من الذنب"[6].
وفي الصحاح للجوهري: "التوبة: الرجوع من الذنب".
قال ابن فارس رحمه الله في مادة (توب):
(التاء، والواو، والباء: كلمة واحدة تدل على الرجوع)، يقال: تاب من ذنبه؛
أي: رجع عنه، يتوب إلى الله توبةً ومتابًا فهو تائب، والتوب: التوبة؛ قال
الله تعالى: ﴿ قَابِلِ التَّوْبِ ﴾ [غافر: 3][7].
والتوبة تكون من الله على العبد، ومن العبد إلى الله، فإذا كانت من الله عُدِّيت بعلى، وإذا كانت من العبد إلى الله عُدِّيت بإلى.
قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا
التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ
ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 17]، وقال عز وجل: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31]، وقال: ﴿ وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ﴾ [الفرقان: 71].
والتوبة شرعًا - كما قال الإمام ابن تيمية رحمه الله -: "التوبة رجوع عما تاب منه إلى ما تاب إليه؛ فالتوبة المشروعة هي الرجوع إلى الله، وإلى فعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه"[8].
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرح رياض الصالحين (١/ ٨٦): "الرجوع من معصية الله إلى طاعته[9]".
ويقول ابن عاشور في تفسيره:"لما كانت
التوبة رجوعًا من التائب إلى الطاعة، ونبذًا للعصيان، وكان قبولها رجوعًا
من المتوب إليه إلى الرضا، وحسن المعاملة، وصف بذلك رجوع العاصي عن العصيان
ورجوع المعصي عن العقاب، فقالوا: تاب فلان لفلان فتاب عليه؛ لأنهم ضمنوا
الثاني معنى عطف ورَضِيَ، فاختلاف مفادَيْ هذا الفعل باختلاف الحرف الذي
يتعدى به، وكان أصله مبنيًّا على المشاكلة".
ويرى ابن عاشور: أن التوبة تتركب من علم، وحال، وعمل.
فالعلم: هو معرفة الذنب، والحال: هو
تألُّمُ النفس من ذلك الضرر، ويسمى ندمًا، والعمل: هو الترك للإثم، وتدارك
ما يمكن تداركه، وهو المقصود من التوبة، وأما الندم فهو الباعث على العمل،
كما جاء في الحديث: ((الندم توبة))، فإذا أردنا أن نتعرف على ما يقوله صاحب
التعريفات بشأن التوبة نراه يقسمها إلى قسمين: التوبة فقط، والتوبة
النصوح، ويعرف الأولى: بالرجوع إلى الله بحل عقدة الإصرار عن القلب، ثم
القيام بكل حقوق الرب[10].
لقد أحسن محمود الوراق حيث قال:
قدِّمْ لنَفْسك توبة مرجوة
قبل الممات وقبل حَبْسِ الألسُن
بادِرْ بها غلق النُّفوس فإنها
ذُخْرٌ وغُنْمٌ للمنيبِ المحسِن
|
حكم التوبة:
تنقسم التوبة من حيث حكمها إلى نوعين:
واجبة ومستحبة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه التوبة
(ص١٣): "التوبة نوعان: واجبة ومستحبة، فالواجبة: هي التوبة من ترك مأمور
أو فعل محظور، وهذه واجبة على جميع المكلفين، كما أمرهم الله بذلك في
كتابه، وعلى ألسنةِ رسله، والمستحبة: هي التوبة من ترك المستحبات وفعل
المكروهات".
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرح رياض الصالحين (١/٨٦): والواجب على المرء أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى من كل ذنب".
الحث على الاستغفار والتوبة:
وقد جاء
الحث على التوبة والاستغفار في كتاب الله تعالى، وحث عليها نبينا صلى الله
عليه وسلم، وحث عليها النبيون من قبله؛حث الله تعالى عباده على التوبة في
كتابه في كثير من الآيات، منها:
قول الله تعالى: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31].
وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ﴾ [التحريم: 8].
وقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ ﴾ [التوبة: 74].
وقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 199].
وقوله تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا ﴾ [مريم: 60].
وقوله تعالى: ﴿ إِلَّا
مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ
اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 70].
وقوله تعالى: ﴿ فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ﴾ [القصص: 67].
وقوله تعالى: ﴿ وَأَنِ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا
حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ
تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ﴾ [هود: 3].
وفي السنَّة وردت آثار كثيرة، منها:
عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كل ابن آدم خطاء، وخيرُ الخطَّائين التوَّابون))؛ سنن الترمذي.
وعن أبي بردة قال: سمعت الأغَرَّ - وكان
من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - يحدِّثُ ابنَ عمر قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس، توبوا إلى الله؛ فإني أتوب في اليوم
إليه مائة مرة))؛ صحيح مسلم.
وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله يقبل توبة العبد ما لم يُغَرغِرْ))؛ مسند أحمد.
وعن ابن معقل قال: دخلت مع أبي على
عبدالله فسمعته يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الندم توبة))،
فقال له أبي: أنت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((الندم
توبة))؟!قال: نعم؛سنن ابن ماجه.
شروط التوبة:
قال العلماء: التوبة واجبة من كل ذنب، فإن
كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي، فلها ثلاثة
شروط: أحدها: أن يقلع عن المعصية، والثاني: أن يندَمَ على فعلها، والثالث:
أن يعزم ألا يعودَ إليها أبدًا، فإن فقد أحد الثلاثة لم تصح توبته، وإن
كانت المعصية تتعلق بآدمي، فشروطها أربعة: هذه الثلاثة، وأن يبرأ مِن حق
صاحبها، فإن كانت مالًا أو نحوه رده إليه، وإن كان حد قذف ونحوه مكنه منه،
أو طلب عفوه، وإن كانت غِيبة استحَلَّه منها، ويجب أن يتوب من جميع الذنوب،
فإن تاب مِن بعضها، صحَّتْ توبتُه عند أهل الحق من ذلك الذنب، وبقي عليه
الباقي[11].
قلت: وفي الحديث من الفوائد التربوية:
1 - الحديث
فيه جزء مرفوع وجزء موقوف على الصحابي، وهو عبدالله بن مسعود رضي الله
عنه، ويفهم ذلك جليًّا من قول الحارث بن سويد: "حدثنا عبدالله بن مسعود
حديثين، أحدهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر عن نفسه".
2 - دليل
على فرح الله عز وجل بالتوبة من عبده إذا تاب إليه، وأنه يحب ذلك سبحانه
وتعالى محبة عظيمة، ولكن لا لأجل حاجته إلى أعمالنا وتوبتنا، فالله غني
عنا، ولكن لمحبته سبحانه للكرم؛ فإنه يحب أن يعفو وأن يغفر أحب إليه من أن
ينتقم ويؤاخذ؛ ولهذا يفرح بتوبة الإنسان.
3 - إثبات صفة الفرح لله تعالى، إثباتًا يليق بعظمته وجلاله عز وجل؛ فله الأسماء الحسنى، والصفات العلى.
4 - في هذا الحديث حث على التوبة؛ لأن الله يحبها، وهي مِن مصلحة العبد.
والله الموفق.
[1] قال النووي: جرت عادة أهل الحديث بحذف قال ونحوه فيما بين رجال الإسناد في الخط، وينبغي للقارئ أن يلفظ بها؛ انتهى.
[2]
هو إمام المسلمين، وشيخ المحدِّثين، وأمير المؤمنين في الحديث، أبو
عبدالله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرةِ بن بردزبه، وقيل: ابن
الأحنف، الجعفي مولاهم، أبو عبدالله ابن أبي الحسن، وكان جده المغيرةُ
مجوسيًّا، ثم أسلم على يدي اليمان الجعفي والي بخارى، فنسب إليه ولاءً.
[3]
هو الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، ولد الإمام مسلم
رحمه الله في سنة 206ه، قاله ابن الأثير، وصححه الحافظ ابن حجر، وتوفي
بنيسابور سنة 261ه عشية الأحد لخمس بقين من رجب بنصر ظاهر بنيسابور، فعاش
سبعًا وخمسين سنة، روى عنه الترمذي حديثًا واحدًا.
[4] صحيح مسلم: ج4/ ص2103 ح2744.
[5] فلاة: جمع فلوات وأفلاء وفلًا: أرض واسعة مقفرة لا ماء فيها، خرج إلى الفلاة - تعيش الغزلان في الفلاة، معجم اللغة العربية المعاصر.
[6] لسان العرب لابن منظور 1/ 233.
[7] معجم مقاييس اللغة لابن فارس 1/ 357.
[8] كتابه التوبة (ص١٥).
[9] شرح رياض الصالحين (١/ ٨٦).
[10] التعريفات للجرجاني 83.
[11] انظر رياض الصالحين للنووي وشروحاته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق