السبت، 3 ديسمبر 2022
ترجمة الشيخ العلامة عبد الغنى بن الشيخ سعد الدين الجلالوي
الخميس، 3 نوفمبر 2022
شيخنا و مرشدنا المقرئ نثار أحمد الفيضي- رحمه الله – (مآثر و ذكريات)
أخانا الحبيب الشيخ راشد حسن السلفي المباركفوري وفقه الله العلي
السلام عليكم و رحمة الله وبركاته
هذا مقال وجيز عن شيخنا ومربينا المقرئ نثار أحمد الفيضي – يرحمه
الله – حاولت فيه تسليط الضوء على حياته في العلم والدعوة والتدريس
والإفادة.
نأمل نشره في (الأقلام الحرة) ولكم منا أجزل الشكر وأوفر التقدير وأعطر الامتنان.
(أخوكم / عبد السلام بن صلاح الدين من أرض الطائف بالمملكة العربية السعودية)
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام الأتمان الأكملان على أشرف الأنبياء و المرسلين و بعد
تلقينا – كما تلقى غيرنا – بقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره و ببالغ الحزن
والأسى نبأ وفاة العالم الكبير و الشيخ الفاضل الجليل و الخطيب النحرير و
الحافظ و المقرئ الشهير / الشيخ نثار أحمد الفيضي (المدرس بالجامعة
الإسلامية فيض عام بمدينة مئو و المدرس بكلية أم المؤمنين التابعة للجامعة
الإسلامية فيض عام بمدينة مئو نات بنجن المعروف بـــــ( كلية فيض عام
للبنات ) و إمام و خطيب المسجد الجامع الواقع بـــ(ميرزا هادي فورة) و ذلك
ظهر الأربعاء في الثاني من شهر رجب لعام 1441 هـــ الموافق : 26 فبراير
لعام 2020 م عبرَ وسائل التواصل الاجتماعي _سوشال ميديا- ( الواتس أب و
الفيس بوك و التويتر )، و خيَّم على الكل ـــــ تلامذةً و محبين ــــــــ
الحزن و الأسى فانهالت الدموع و سالت و ارتفعت أكف الضراعة إلى رب الأرض و
السماء داعيةً له بسحائب المغفرة و شآبيب الرضى، و تراكمت كلمات العزاء و
تضافرت رسائل الدعاء.
و مما يسعدني كثيراً أن أقوم بتسليط الضوء على حياة الراحل – رحمه الله –
متمثلاً في بعض جوانب حياته العلمية و الدعوية ، و نترك الباقي
للآخرين،علَّه من يسد هذه الثغرة بإذن الله، فأقول و بالله التوفيق .
اسمه و نسبه : هو الشيخ الكبير و العالم النحرير و الحافظ الشهير و المقرئ / نثار أحمد بن الحافظ إبراھیم بن الحافظ محمد سعید بن بدھو الفيضي .
مولده و منشأه : ولد في أحد أحياء مدينة مئو نات بنجن
المسماة بــ(ميرزا هادي فورة) و ذلك في 2 يونيو 1942 م ، و نشأ يتيماً و
ترعرع في بيت علمٍ و شرفٍ و فضلٍ تحت كنف أمه الحنون حتى بدأ تعليمه
الأوَّلي بالجامعة العالية العربية بمدينة مئو نات بنجن)( و هي جامعة
إسلامية عربية و مؤسسة دعوية تعليمية تأسست عام 1868م على يد العالم الكبير
الشيخ فيض الله المئوي (ت ۱۸۹۸م) شيخ العلامة شبلي النعماني و تلميذ الشيخ
سخاوت علي الجونفوري(1858م) ،و الشيخ المئوي –رحمه الله – من مواليد مئو
نات بنجن ،تعلم العلوم البدائية في بلدته (مئو) ثم سافر إلى مدينة (جونفور)
ليتتلمذ على الشيخ سخاوت علي و أخذ جميع العلوم العقلية و النقلية من
التفسير و الفقه و الحديث المنطق و الفلسفة ثم توجَّه إلى مدينة ( لكناؤ)
ليدرس على الشيخ العلامة عبد الحليم اللكنوي ثم رجع إلى (جونفور) و أكمل
العلوم العقلية و النقلية و قد أحيا الله به نور التوحيد و السنة في بلدة
(مئو )بعد ما كانت غارقة في أوحال الشرك و الخرافات و البدع و الأوهام
الباطلة (ينظر: تراجم علماءِ حديث هند 1/ 417 -418) حتى أتم مرحلة حفظ كتاب
الله خلال ثلاث سنوات على أيدي الحافظ أحمد الله المئوي- رحمه الله – و قد
تعلَّم خلال هذه الفترة علمي التجويد و القراءات على أيدي المقرئ ظهير
الدين المئوي – رحمه الله – ثم أكمل في الجامعة الإسلامية فيض عام بمدينة
مئو على أيدي المقرئ خليل الرحمن المئوي –رحمه الله- متمثلاً في رواية حفص
عن عاصم ، ثم واصل دراسته الابتدائية فيها حتى أتمها و التحق بمرحلة
الثانوية العامة و تلقى العلوم العربية و الفارسية على أيدي مشايخها الكبار
و على رأسهم الشيخ الحكيم محمد سليمان بن داؤد المئوي( 1294هــ- 1378 هــ)
(و هو تلميذ الشيخ المحدث السيد محمد نذير حسين الدهلوي) و الشيخ عبد
العلي( المتوفى 1967 م) و الشيخ فضل الرحمن العمري(المتوفى 1998 م ) و
الشيخ عبد الحكيم بن عبد العلي الفيضي(المتوفى 2003م) و الشيخ محمد إلياس
الفيضي المئوي و الشيخ محمد إسحاق الفيضي –رحمهم الله- ثم التحق بالجامعة
الإسلامية فيض عام بمدينة مئو نات بنجن ( و هي أكبر مؤسسة تعليمية و تربوية
سلفية بمدينة مئو تأسست على أيدي جماعة من المخلصين و العلماء البارزين و
هي امتداد علمي و فكري لمدرسة العالم الكبير و المحدث الشهير العلامة السيد
محمد نذير حسين الدهلوي-1320- و العالم الجليل الشاه المحدث ولي الله
الدهلوي-1176- و ذلك عام 1902م الموافق :1320هــ ، و و قد افتتحت الدراسة
فيها على أيدي الشيخ المحدث الحافظ عبد الله الغازيفوري – (و هو شيخ صاحب
عون المعبود شرح سنن أبي داؤد و شيخ صاحب تحفة الأحوذي في شرح جامع الترمذي
) و عين الشيخ محمد أحمد بن ملا حسام الدين المعروف بـــــ(العالم الكبير،
و أحد تلامذة المحدث محمد نذير حسين الدهلوي)أول مدرس فيها و من ثم رئيس
هيئة أعضاء التدريس بالجامعة ، و كان يديرها آنذاك محدث العصر و تقيُّ
الزمان الشيخ محمد أحمد المعروف بـــــ ’’الناظم ،، أي :’’الأمين العام،،- و
لا أدري أنا – حسب علمي المحدود القاصر – أنه لقب و اشتهر بهذا الوصف
الجميل المفتخر إلا شخصان هما: الشيخ محمد أحمد القاسمي المئوي و الشيخ
شفاء الله الفيضي الدمكاوي – رحمهما الله- ) و ذلك ليستقي من معينها العذب و
ينهل من منهلها الصافي متضلعاً من العلوم الإسلامية و الفنون الشرعية و
المناهج الدراسية المقررة ، متمكناً فيها ، متزوداً بالثقافات الدينية على
أيدي أساتذتها الأجلاء النابغين و مشايخها الفضلاء البارعين و على رأسهم :
الشيخ محمد جميل الفيضي المئوي (المتوفى 1972م) و الشيخ أبو عبيدة عبد
المعيد البنارسي (المتوفى 1980 م) و الشيخ العلامة شمس الحق السلفي
البيهاري(المتوفى 1986 م ) و الشيخ المحدث عظيم الله الفيضي المئوي
(المتوفى 1993م) ، و الشيخ المفتي المحدث حبيب الرحمن الفيضي
المئوي(المتوفى 1996 م) –عليهم من الله شآبيب الرحمة و سحائب المغفرة –
وغيرهم كثير يصعب ذكرهم حتى تخرج فيها عام 1387هــ ــ 1967م و حائزاً على
شهادة الفضيلة مضطلعاً من العلوم الشرعية و الفنون الإسلامية و المناهج
المقررة في و قد حصل خلالها على شهادات (المولوي و العالم و الفاضل من هيئة
الله آباد التعليمية الحكومية بتقدير ممتاز)
و قد رحل لطلب العيش و كسب الرزق – باحثاً عنهما – إلى مدينة مومبائي ليكون
إماماً و خطيباً في المسجد الجامع لأهل الحديث الكائن في (مدن فورة) و لم
يلبث هناك إلا عاماً واحداً لعدم ملائمة الجو هناك ، ثم رجع قافلاً إلى
مسقط رأسه (مئو نات بنجن) لينخرط في سلك التدريس في الجامعة الإسلامية فيض
عام بمدينة مئو فتمَّ تعيينه فيها معلماً و مدرساً للصفوف العليا عامَ 1979
م و ذلك بشفاعةٍ حسنةٍ من زميله الكريم و صديقه الحميم الشيخ محفوظ الرحمن
الفيضي( رئيس أعضاء هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية فيض عام بمدينة مئو و
شيخ الحديث فيها سابقاً ) لدى أمينها العام الشيخ المحدث و العالم الجليل
محمد أحمد القاسمي المئوي(المتوفى : 1402 هــ- 1982م ) و المعروف
بــــ«الناظم » ولم يزل يواصل مسيرته التعليمية و التدريسية و الدعوية و
التربوية في الجامعة و قام بتدريس عديدٍ من الكتب الدراسية و المناهج
المقررة في الجامعة و على رأسها : الكافية في فن النحو و الجامع الصحيح
للإمام مسلم ، فقام بتدريسها أحسن قيام و أعطى حقه كما ينبغي حتى تقاعد من
وظيفته الحكومية عامَ 2003 م غيرَ أن مسؤلي الجامعة لم يسمحوا له الانفصال
عنها فتمَّ تعيينه مدرساً على حساب الجامعة الخاص فواصل مسيرته التعليمية و
التدريسية و التربوية حتى أنهكه المرض و أقعده عام 2018م ، و قد لعبَ
دوراً بارزاً في تعليم طلاب الجامعة و تدريسهم و تثقيفهم و صبغهم بالصبغ
الإسلامي الخالص و تربيتهم تربيةً سلفيةً صافيةً.
و قد خدم الجامعة و طلابها و مرتاديها طوال هذه الفترة الطويلة (1969م –
2018م ) بكل تفانٍ و إخلاصٍ و جديةٍ و حيوية و نشاطٍ،فأخذ عنه خلق كثير و
استفاد منه جم كبير من أهل العلم و الفضل و تتلمذ عليه جمع غفير –منح الله
لهم صيتاً و شهرةً و صوتاً و صولةً بين الأوساط العلمية العالمية – و على
رأسهم : فضيلة الشیخ الدكتور عبد الباری فتح اللہ المدنی(الأستاذ المشارك
بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض) و الشیخ مقصود الحسن
الفیضی(الداعية بالمكتب التعاوني للدعوة و الإرشاد و توعية الجاليات
بمحافظة الغاط) و الشیخ ظفر الحسن الفیضی ثم المدنی( الداعية بوزارة الشؤون
الإسلامية بالشارقة بالإمارات العربية المتحدة) و الشيخ مقیم
الفیضی(الأمين العام المساعد لجمعية أهل الحديث المركزية السابق) و الشيخ
المفتي عبید الرحمن المدنی(المتوفى 2006 م) و الشیخ مظهر علی المدنی(شیخ
الجامعۃ بالجامعة الإسلامية فيض عام ) و الشيخ شمیم أحمد العمری المدني و
الشيخ إبراهيم المدني و الشيخ عبد الحمید الفیضی (المدرس بالجامعة
الإسلامية فيض عام) و الشيخ حماد الرحمن الفيضي السلفي (المدرس بالجامعة
الإٍسلامية فيض عام ) و الشیخ عبد الغنی الفیضی(شيخ الجامعة الإسلامية فيض
عام السابق )و الشيخ الدكتور عبد المنان بن عبد اللطيف الفيضي المدني
(المدرس بالجامعة الإسلامية فيض عام) و الشيخ مفیض الدین بن إفاض الدين
المدنی (المدرس بجامعة الإمام البخاري بكشن غنج) والشیخ عبد السلام بن منیر
الدین الفیضی المدنی(الداعية بالمكتب التعاوني للدعوة و الإرشاد و توعية
الجاليات برأس تنورة بالمملكة العربية السعودية ) و الشيخ الدكتور لیث محمد
المکی (مدرس بجامعة الفاروق بإتوا بمديرية سدرات نغر) و الشيخ العالم
الزاهد شفاء اللہ الفیضی الدمکاوی(الأمين العام بالجامعة المحمدية
بداباكيند في ولاية جاركند السابق و المتوفى عام 1997م) و الشيخ الكاتب و
المحرر الكبير محمد خالد الفیضی و الشيخ الدكتور فاروق عبد اللہ بن أشرف
الحق النراین فوری ‘ و الشيخ إكرام الحق بن نصير الدين الفيضي و الشيخ
مصطفى عامر الفيضي المدني و كاتب هذه الأسطر (عبد السلام بن صلاح الدين –
داعية المكتب التعاوني للدعوة و الإرشاد و توعية الجاليات بمحافظة ميسان-
)و غيرهم كثير يصعب ذكرهم ، فمنهم من حاز قصب السبق في مجالات شتى من
ميادين التعليم و التدريس و الدعوة و منهم من برز في ميادين التأليف و
الترجمة و البحث و التحقيق و منهم نبغَ في ميادين الخطابة و الإمامة و
الوعظ و النصح و التوجيه و الإرشاد و منهم من اشتهر في مجال الزهد و الورع و
التقوى.
صفات الشيخ المقرئ و أخلاقه :
(وللنَّفـسِ أخْلاقٌ تَدُلُّ على الفَتَى أكـانَ سَخاءً ما أتَى أمْ تَسَاخِيَا)
و حينما نتكلم عن أخلاقه – رحمه الله – كأننا نتكلم عن أزهد خلق الله في
أرضه في هذا الزمان و أعبد عباد الله من بين عباده في وقتٍ لا يعرف التهجد
إلا اسمه و لا الزهد إلا رسمه و لا الورع إلا لفظه فالشيخ الأشم – رحمه
الله – كان يتحلى بصفات العلم و الحلم و الرصانة العلمية و التواضع الجم و
الخلق الإسلامي الفاضل و المناقب الجميلة و الشيم الحميدة و الصفات الرشيدة
و الأوصاف الكريمة و الأخلاق الطاهرة، شديدَ الغيرة على السلفية و الدين
الإسلامي الحنيف ، و كان محباً للعلم و العلماء و مقدرهم تقديراً كبيراً ،
تقياً نقياً ورعاً زاهداً عابداً ،كثيرَ المطالعة ،مولعاً بها ،واسعَ
المعلومات ، كما أنه كان يعد عالماً نحريراً و خطيباً بارعاً مفوَّهاً و
مهتماً بالحديث أشد الاهتمام ، كان يملك صوتاً ندياً يحبه القاصي و الداني ،
و كان الناس يأتي إلى المسجد الذي كان يقوم بمهمة الخطابة فيه ليستمع إلى
صوته الندي و يستمع إلى خُطَبه الرنَّانة و كلماته الوعظية الشيِّقة و
يستفيد منها ـ فكان إلقاؤه من أجمل ما رأيت من حسن إلقاءٍ و جودة طرحٍ فقد
حباه الله موهبة قوية و ملكة كبيرة في الإلقاء و الطرح لمواضيع مهمة في
الحياة البشرية ، كما أنه كان يملك ذهناً حاداً و طبعاً أخَّاذاً،فرحمه
الله رحمة الأبرار و أسكنه فسيح جناته.
و كان الشيخ المقرئ دائم الحث و الترغيب لطلابه و مرتاديه في الجد و
الاجتهاد و الحرص في الطلب و التحصيل و التزود من العلوم و الثقافة ليتمكن
من خدمة الإسلام و المسلمين على أحسن وجه و أكمله ، و كان ينصح طلابه
دائماً فيقول : «الناسُ في انتظاركم فعُدُّوا العُدَّةَ ، و اجتهدوا في
الطلب »
و قد تشرف الشيخ الفيضي – رحمه الله – بأن يكون تلميذُ تلميذِ الشيخ المحدث
السيد نذير حسين الدهلوي حيث أنه تتلمذ على أيدي الشيخ الحكيم محمد سليمان
بن داؤد المئوي فأخذ عليه القرآن الكريم كما يقول الشيخ محفوظ الرحمن
الفيضي ( ينظر: تذكرة تلاميذ السيد نذير حسين المئويين جمع و ترتيب للشيخ
محفوظ الرحمن الفيضي ص/90-91)
خدم الشيخُ الفيضي –رحمه الله – الجامعةَ الإسلامية فيضَ عام خدمة لا تنسى
عبر سنوات طوال و دهوراً قاربت 45 عاماً ، خدمها بكل تفانٍ و إخلاصٍ و جدية
تامة و حيويةٍ قوية ، نذر نفسه لها و لطلابها و مرتاديها،انضم في سلك
التدريس بها حتى أصبح علامةً كبرى لها ، انخرط في سلك التدريس بها فلم يخرج
منها و لم ينفصل إلا بعدَ ما أقعده المرض فجاءوا من كل حوبٍ و صوبٍ ،
فأجادَ و أفادَ ، جعلهم الله سبباً لغفران ذنوبه و كفراناً لسيئاته و محواً
لخطيئاته.
كان الشيخ الفيضي – رحمه الله – محبباً لدى العامة و الخاصة فأحبهم و
أحبوه، و كان يُجِلُّه الداني و القاصي و يبجله العالم و العامي و يحترمونه
احتراماً شديداً و يقدرونه تقديراً قوياً كما أن أساتذة الجامعة الإسلامية
فيض عام و طلابها يجلونه على حدٍ سواء و جديرُ بالذكر أن الشيخ المحدث
محفوظ الرحمن الفيضي (شيخ الجامعة الإسلامية فيض عام السابق ) كان يكرمه
أيما إكرام و لا يناديه إلا باسم (الحافظ ) و ذلك تقديراً له و حباً و
إعظاماً نظيرَ جهوده الجبارة و مساعيه المشكورة و عبقريته الفذة و شخصيته
الكريمة و نبوغه في العلم و الفضل و بروزه في الأخذ و العطاء.
أنيطت له المواد الدراسية الكثيرة لتدريسها فقد كان يدرِّس و يعطي حق
التدريس لها و قد شرَّفني الله – كما تشرَّف غيري من تلاميذه الآلاف
المؤلفة – بتلقي الجامع الصحيح للإمام مسلم على أيديه فكان- رحمه الله – في
التدريس و التعليم نموذجاً يحتذى و أسوةً يقتدى في الأخذ و العطاء ، و كان
مدرساً مثالياً و أستاذاً محنكاً و معلماً يشار إليه بالبنان في العلم و
الفقه و الحديث و اللغة .
و كانت تعاملاته ــــ داخل الحرم الجامعي و خارجه ــــ مع طلابه معاملةَ
الوالد لولده في الرحمة و الشفقة و العطف و الحنان و النصح و الإرشاد و
التوجيه في كل حينٍ و آنٍ ، حتى و إن أخطأ الطالب فقد كان ينصحه في سرية
تامة و شفقةٍ أبوية و حنانٍ كريمٍ.
و كان يتمتع بصفاء القلب و نقاءه و نظافته و طهارته لا يحمل حقداً و لا حسداً و لا غلاً على أحد ، و كان يمتثل – دائماً قول الشاعر
الحقدُ داءٌ دويٌّ لا دواءَ لهُ يَرِي الصُّدورَ إذا ما جمره حُرثا
و من خصائص حياة الشيخ المقرئ – رحمه الله- بأنه كان حريصاً في أداء أمانته
التي أنيطت إليه من التدريس و التعليم و الإمامة و الخطابة فقد كان يدخل
الفصل حينما كان مدرساً في الجامعة بعد دقِّ الجرس و لا يبقى فيه بعد
الانتهاء من وقته و كان هذا دأبه و ديدنه طوال فترة تدريسه و تعليمه في
الجامعة يشهده كلُّ من عاصره و زامله و أخذ عنه و درس عليه ، فكان مدرساً
أميناً و لا يدرِّس الطلاب إلا بعد المطالعة و المراجعة الدقيقة لما
سيدرِّسه و لا يغيب عن الجامعة إلا حال كونه مريضاً أو مسافراً فلله دره، و
في ذلك عبرة للمعتبرين و عظة للمتعظين ، فرحمه الله رحمة الصالحين.
و قد تولى إمامة المسجد الجامع الواقع بـــ( ميرزا هادي فورة) و الخطابة من
منبره زهاءَ نصف قرنٍ، و كان إماماً مثالياً و خطيباً مصقعاً مُصلِحاً ،
يملك صوتاً شجياً و قد أعطي مزماراً من مزامير آل داؤد ، كان قوالاً للحق ،
رجَّاعاً إليه و لا يخاف في ذلك لومة لائم و له مواقف مشهودة في ذلك،و كان
يعالج خلال هذا المنبر الشريف القضايا المعاصرة و المدلهمات الراهنة في
ضوء الكتاب و السنة .
رحلاته الدعوية : تقدم سابقاً أن الله سبحانه و تعالى
حباه قوةً خارقةً في إلقاء الخطب و المحاضرات و الكلمات الوعظية يشهد كلُ
من حضر محاضراته و سمعها فقد كان يأتي إليه دعوات المشاركة من شتى المناطق و
الولايات الهندية لحضور الملتقيات الدعوية و الندوات العلمية و المحافل
الإصلاحية فقد شارك في عديدٍ من الولايات الهندية كـــ(ولاية بيهار و
جاركند و بنغال الغربية و بعض مديريات اترابراديش و غيرها) تقبل الله جهوده
مساعيه و جعلها في موازين حسناته.
رحلاته للحج و العمرة : إن من طبيعة المسلم الحق و المحب
للدين و الشرع المطهر زيارة الحرمين الشريفين و الشوق إليهما فقد أكرم الله
شيخنا بزيارة الحرمين الشريفين لمرات عديدة فقد وفِّق – رحمه الله –
برحلتي الحج فقد أدى فريضة الحج عامَ 1996 م و تشرفنا – جميعاً – نحن طلاب
الجامعة الإسلامية فيض عام الدارسين بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
بضيافة الشيخ المقرئ في رحاب الجامعة و خدمته و تكريمه و تبجيله و استمتعنا
بنصائحه القيمة و توجيهاته النافعة و أهديت له بعض الهدايا المتواضعة ، ثم
تشرف بزيارة الحرمين الشريفين و أداء حج بيت الله العتيق عامَ 2014 م و
تمَّ اللقاء معه في رحاب الجامعة و الاستماع إلى إرشاداته الماتعة ، ثم
أكرمه الله بأن يسر زيارة الحرمين الشريفين لأداء العمرة و ذلك في عام 2017
م ، و هذه الزيارة تعتبر آخر زيارة له للحرمين الشريفين، تقبل الله من
شيخنا صالح الأعمال و يدخله جنة الفردوس الأعلى بمنِّه و كرمه.
ذكرياتي الجميلة مع الشيخ الفيضي – رحمه الله –
• لقد كرمني الله – تقدَّست أسماؤه – بالانتماء إلى الجامعة الإسلامية فيض
عام طالباً حتى تخرجت فيها في 19/يناير لعام 1995م و قد أقيم له حفلٌ كريمٌ
حضره جمع كبير من أهل العلم و الفضل منهم رئيس المناظرين و عمدة المحققين-
بلا منازع- الشيخ العلامة رئيس الأحرار الندوي – شيخ الحديث بالجامعة
السلفية ببنارس سابقاً – و قد أنيطت إليَّ – فضلاً من الله و منةً- عمامة
التخرج بيد شيخنا الفاضل و مترجَمنا الحبيب – رحمه الله – فقال أثناء
إناطته إياي ما مفاده: «عليك بهذه العمامة و قدرَها » و كان الطلاب يلهفون
بعمل الإناطة على أيدي الشيخ الفيضي – رحمه الله –
• و مما كرمني الله سبحانه و تعالى – أيضاً – بأن وفقتُ بتأسيس مؤسسة
تعليمية دعوية و تربوية باسم (مركز آزاد التعليمي الإسلامي )في قلب مدينة
غريديهه بولاية جاركند عامَ 1997 م في حين تراكمت جهود أهل البدع و
الخرافات في المدينة و تضافرت المساعي الشركية فيها و ذلك بالتعاون و
الاشتراك مع مشايخ المنطقة و من أبرزهم : الشيخ محمد كليم أنور التيمي ثم
المدني و الشيخ المقرئ محمد أيوب خليل السلفي ، و للمركز جهود مشكورة في
تعليم أبناء المسلمين و تربيتهم و كان من ضمن الجهود إنشاء «معهد زيد بن
ثابت لتحفيظ القرآن الكريم » و قد تخرج خلاله جمع كبير من حفظة كتاب الله
الكريم ، و قد كان يقام سنوياً حفل التخرج و قد طلبت من شيخي و مرشدي
الفيضي – رحمه الله – عامَ 2002 م أن يحضر له لإلقاء محاضرة عامة و إناطة
العمائم لحفاظ كتاب الله فقد سعدنا كثيراً و سررنا جداً بحضور الشيخ المقرئ
الفيضي، فقد أناطَ جمعاً كبيراً من حفظة كتاب الله عمائمَ تحفيظ القرآن
الكريم بأيديه فجزاه الله ، ورحمه الله رحمة المحسنين .
• كما أنه سبحانه و تعالى أسعدني كثيراً بأن وفِّقْتُ في عام 2017 م ببناء
المسجد الجامع الراقي في إحدى قرى مديرية غريديهه بولاية جاركند و قد تمَّ
إقامة حفل افتتاح لهذا الجامع المبارك في يوم الجمعة الموافق : 15 /8/ 2017
م – 3/12/1438 هـــ حضرها لفيفٌ من أهل العلم و الفضل و الشرف و على رأسهم
فضيلة الداعية الكبير و الفقيه الهندي النحرير الشيخ / محمد إشفاق السلفي
(مبعوث وزارة الشؤون الإسلامية و الدعوة و الإرشاد بالمملكة العربية إلى
الهند ) و مترجَمنا الفاضل و شيخنا الجليل المقريء نثار أحمد الفيضي – رحمه
الله – مع نقاهة صحته و صعوبة سفره لخارج منطقته غيرَ أن حبه إيايَ آثره
للسفر إلى هذه المنطقة النائية( ولاية جاركند ) ، بل أنه أقام عديداً من
الأيام بين أصحابه و تلاميذه و محبيه من أبرزهم الأستاذ أبو القاسم الأثري (
الأمين العام لكلية أم عطية للبنات الواقعة بـــ(جمفا فور ) بمديرية
جامتارا بولاية جاركند و المعلم بوزارة التعليم بالولاية ) و تلميذه البار
محبوب عالم الفيضي و الشيخ أنوار الحق الفيضي و الشيخ الحافظ شميم أختر
الفيضي وغيرهم كثير .
و إن مما لا شكَّ فيه و لا ارتياب أن الحديث عن هذا العَلَم الأشم والطود
الأفخم صعبُ جدٍ،أينما اتجهتُ إلى جانب من جوانب شخصيته عسُر عليَّ وصفه و
ضاق عليَّ معجم مفرداتك يحيط بوسعه.
و قد أفل هذا النجم الساطع في 2 رجب 1441 هــ – 26/2/2020 م في تمام الساعة
الثالثة بتوقيت الهند و ذلك في مستشفى فاطمة بمدينة مئو بعد ما أنار الطرق
و أضاء الدروب و أرشد الشعوب و عالج الخطوب حافلاً حياته بالعلم و العمل و
الدعوة و التعليم و التدريس و التربية و ووري جثمانه في تمام الساعة
التاسعة ليلاً من نفس اليوم في مقبرة «الميرزا هادي فورة» و صلى عليه زميله
الكريم و صديقه الحميم الشيخ محفوظ الرحمن الفيضي و حضر جنازته جم غفير من
أهل العلم من جميع مدارس مئو نات بنجن و جامعاتها أساتذةً و طلاباً ، نسأل
الله بأسمائه الحسنى و صفاته العلى أن يتغمد شيخنا بواسع رحمته و يسكنه
فسيح جناته و يكفر عن سيئاته و يعفو عن زلاته و خطيئاته و يلهم أهله و ذويه
و محبيه الصبر و السلوان
الاثنين، 18 يونيو 2018
العلامة الشيخ المفتي محمد شفيع رحمه الله

كان المسلمون زمن تدريس الشيخ بدارلعلوم تدور علیهم رحی الاستعمار الغربي، ولم يزل علماء دارالعلوم في جهد جهيد للحرية والاستقلال. وفي هذا المشروع بذل الإمام المجاهد شيخ الهند مولانا محمود الحسن رحمه الله جميع حياته، وابتلي بأشد ما يكون من الأذی زمن اعتقاله بجزيرة «مالته»..
****************************
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علی خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلی آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم ودعا بدعوتهم إلی يوم الدين وبعد:
فهذه دراسة لحياة عَلم جليل من أعلام عصرنا، وركن عظيم من أركان الإصلاح والتجديد، مفتي ديار باكستان الشيخ المفتي محمد شفيع رحمه الله تعالی رحمة واسعة، وأدخله دارالنعيم، وجعله في أعلی علیين.
يعتبر العلامة الشيخ المفتي محمد شفيع رحمه الله من كبار علماء الهند وباكستان، الذين حملوا في هذه الديار لواء الدين الحنيف، وبذلوا لإعلاء كلمته حياتهم وقوتهم.
نشأته:
ولد الشيخ رحمه الله لواحد وعشرين من شعبان المعظم سنة 1314 من الهجرة، وترعرع في حجر العلم والعرفان، إذ عكف علی تلقي العلم من العلماء الكبار منذ نعومة أظفاره، والتزم صحبة العارفين من بداية عمره.
قد دخل دارالعلوم في «ديوبند» بعد ما قرأ القرآن الكريم، في سنة 1325 هـ. وهي أكبر جامعة دينية قامت بنشر المعارف الإسلامية القيمة في الهند، وجددت فيها أنوار التي كادت تنطفيء بسبب الاستعمار الغربي.
قد دخل الشيخ دارالعلوم هذه وهو في ميعة صباه، ولم يزل مشتغلاً بدراسته مدة عشر سنوات، مكباً علی تلقي العلوم من العلماء الأفاضل الذين سارت بصيتهم الركبان في أنحاء الهند وخارجها.
ولما كان حضرة الشيخ رحمه الله تبدو علیه – منذ اللحظة الأولی- مخايل النبوغ وأماثر الذكاء، صار أساتذته يبذلون في تعلیمه جهوداً مختصة مع كل عطف وحنان، ولإخلاص نيتهم يد لا تجحد في تكوين ذوقه الفني وتنشيط مواهبه الصالحة.
وفرغ عن دراسته في سنة 1332 هـ ، ولما كان من الطلاب المتفوقين مدة دراسته، اختاره أساتذته ليكون مدرساً بدارالعلوم، فشرع في التدريس في سنة 1336هـ ، وسرعان ما اشتهر تدريسه فيما بين الطلبة في سائر البلاد الهندية ولم يزل يدرس الحديث والتفسير والفقه وغيرها من العلوم الدينية الرائجة مدة ست وعشرين سنة.
وتلمذ علیه في هذه المدة خلق كثير من الطلبة، استفادوا من علومه وعرفانه، فما من مدينة من مدن الهند وباكستان إلا وله فيها تلامذة، وأكثرهم مشتغلون بالتدريس والخطابة وإفادة العلوم، ويعتبرون من العلماء البارزين في هذه الديار.
أشهر أساتذته:
1- الإمام الحافظ المحدث العلامة المحقق مولانا الشيخ "أنور شاه الكشميري"، وكان بحراً زاخراً بالعلوم والمعارف، نابغة في كل فن، آية من آيات الله في الحفظ والإتقان، قرأ علیه الشيخ محمد شفيع، الجامع الصحيح للبخاري، و سنن الترمذي، وكتاب الشمائل والعلل وكتاب الفلسفة الجديدة وشرح النفيسي في الطب. وهو من تلامذته المبرزين، وكان حضرة الإمام الكشميري رحمه الله يحبه حتی جعله من أصحابه الأصفياء، الذين ساعدوه في مهمة الرد علی (القاديانية) وبأمره ألّف الشيخ محمد شفيع رحمه الله كتاب «ختم النبوة» باللغة الأردية و«هدية المهديين في آيات خاتم النبيين» باللغة العربية.
2- الإمام الفقيه مولانا الشيخ المفتي "عزيز الرحمن"، وكان من أعلام العلماء والفقهاء، قرأ الشيخ علیه مؤطأ الإمام مالك برواية يحيی بن يحيی، وبرواية الإمام محمد بن الحسن الشيباني، وشرح معاني الآثار وتفسير الجلإلین ومشكاة المصابيح.
3- الإمام الزاهد مولانا الشيخ "السيد أصغر حسين الهاشمي الحسني"، وكان رحمه الله من أعيان علماء عصره، فيه أنموذج صالح للأخلاق الإسلامية الكريمة من التواضع والسذاجة وخشية الله، وله مؤلفات وجيزة نافعة قد طبع أكثرها باللغة الأردية، رحمه الله تعالی رحمة واسعة.
تلقی منه الشيخ محمد شفيع رحمه الله السنن لأبي داود السجستاني، والسنن الكبری للنسائي، وشقصاً من أواخر جامع الترمذي. رحمهم الله تعالی.
4- الإمام الداعية الكبير، شيخ الإسلام "شبير أحمد العثماني"، صاحب الشرح الجليل علی صحيح مسلم، وكان من نواب العلماء في العصر الأخير، له خبرة تامة بسائر المعارف والعلوم، وكان من الزعماء الممتازين في جهود بناء باكستان، ولن ينسی الشعب الباكستاني تضحياته الغالیة في هذا السبيل، وله مؤلفات قيمة معروفة حول شتی المواضيع الدينية من أشهرها «فتح الملهم بشرح صحيح مسلم» وهو شرح حافل جليل، تلقاه الأمة الإسلامية بالقبول.
5- الإمام الفاضل العلامة، شيخ الأدب والفقه "إعزازعلی" رحمه الله تعالی، وكان رحمه الله بارعاً في سائر العلوم، لا سيما العلوم الأدبية، وله تعلیقات قيمة معروفة علی كثير من الكتب الدراسية.
استرشاده بمشايخ الطريقة:
كان الشيخ في اشتياق شديد نحو الاستفادة بصحبة أساتذته ومشايخه الكرام، فكان كثيراً ما يحضر مجالس الإمام الداعية المجاهد الكبير شيخ الهند "محمود الحسن" رحمه الله ويستفيد من بحار عرفانه.
لما اعتقل شيخ الهند رحمه الله بجزيرة «مالته»، راجع شيخ مشايخ الوقت، حكيم الأمة الشيخ "أشرف علي التهانوي" رحمه الله تعالی، وبايع علی يده بيعة السلوك في سنة 1339 من الهجرة.
وكان حكيم الأمة يحبه ويعتبره من أصحابه الأصفياء، ويشاروه في كل مهمة دينية.
إفتاءه:
كان لسماحة الشيخ مناسبة تامة بالفقه والفتيا منذ زمن تدريسه بدارالعلوم، فكان كثيراً ما يساعد شيخه المفتي "عزيزالرحمن"، رئيس هيئة الإفتاء، ثم لما توفاه الله تعالی، جعله الأساتذة رئيس هيئة الإفتاء بدارالعلوم ليملأ الفراغ الناشي بوفاة الشيخ عزيزالرحمن، فلم يزل الشيخ محمد شفيع رحمه الله علی هذا المنصب الجليل مذ سنة 1350 هـ إلی 1362هـ. وانتشرت فتاواه في هذه المدة إلی مشارق الأرض ومغاربها.
كتب الشيخ في هذه المدة أكثر من أربعين ألف فتوی. وقد طبع منها عدد قصير في ثماني مجلدات ضخام باسم «إمداد المفتيين» وهو الوشل القليل من ذلك البحر الواسع المحفوظ في دفاتر دارالعلوم التي لم تطبع بعد. ولا شك أنها ذخيرة قيمة للإسلام والمسلمين.
لما هاجر إلی باكستان وأسس معهداً دينياً باسم «دارالعلوم كراتشي» في سنة 1370هـ ضبطت فتاواه في دفاترها مرة أخری، وبلغ عددها الیوم زهاء ثمانين ألف فتوی.
وهذا كله ما صدر منذ سنة 1381 هـ إلی آخر حياته، سوی الأسئلة الشفاهية التي كان يجيب عنها في المقابلات وعلی الهاتف طول الليل والنهار.
وتعتبر «دارالعلوم كراتشي» ببركة الشيخ المفتي من أكبر مراكز الفتيا في ديار الهند وباكستان، يرجع إلیها المستفتون من سائر البلاد والأقطار من المملكة العربية السعوية، ومصر، والشام، والعراق، وايران، وافغانستان، وغيرها مما لا يحصی عددها.
جهوده في بناء باكستان وإقامة الدين فيها:
كان المسلمون زمن تدريس الشيخ بدارلعلوم تدور علیهم رحی الاستعمار الغربي، ولم يزل علماء دارالعلوم في جهد جهيد للحرية والاستقلال. وفي هذا المشروع بذل الإمام المجاهد شيخ الهند مولانا محمود الحسن رحمه الله جميع حياته، وابتلي بأشد ما يكون من الأذی زمن اعتقاله بجزيرة «مالته».
وكان حكيم الأمة الشيخ "التهانوي" يری منذ زمان أنه لا نجاح للمسلمين إلا بتكوين مملكة مستقلة حرة ينفذون فيها أحكام شريعتهم، ويعيشون فيا مسلمين صادقين.
وحقق الله أمانيه بأن قام حزب «مسلم ليك» بنعرة باكستان، فأشار حكيم الأمة الشيخ "أشرف علی التهانوي" عامة المسلمين والعلماء بتأييد هذه الدعوة، فقام بها كثير من عوام المسلمين والعلماء.
وكان في مقدمتهم الإمام الداعية شيخ الإسلام "شبيرأحمد العثماني"، والشيخ "ظفر أحمد العثماني"، وفضيلة شيخنا المفتي "محمد شفيع" رحمهم الله، وهم الذين أسسوا جمعية من العلماء باسم «جمعية علماء الإسلام» حتی تجاهد في هذا السبيل وتحض المسلمين علی الاتحاد لحماية الدين وتأييد فكرة باكستان.
وصرف الشيخ "محمد شفيع" رحمه الله في القيام بهذا المشروع لياله وأنهاره، وحينئذ صارت جميع أوقاته موقوفة علی الجهاد في بناء باكستان، فتجول لأجله في أنحاء الهند وجوانبها وأيقظ عوام المسلمين عن رقادهم بلسانه وقلمه وأخبرهم بمكايد أعدائهم الكفار.
وفي سنة 1367 من الهجرة الموافقة لسنة 1947 ميلادياً ، حان أن تثمر جهودهم التي استمرت أحقاباً، وبرزت علی خريطة العالم رسوم مملكة جديدة إسلامية، فلله الحمد أولاً وآخراً.
فكان من الواجب علی العلماء المجاهدين أن يهاجروا إلی باكستان ويبذلوا جهودهم في تكوين دستور إسلامي يصلح أساساً للحكومة فيها. فاقتفی شيخنا المفتي رحمه الله سنة النبي الأمين صلی الله علیه وسلم وهجر موطنه الألیف الذي حل فيه الشباب تميمته، وقضی فيها خمساً وخمسين سنة من عمره.
وقررت حكومة باكستان في سنة 1949 م مجلساً من أكابر علمائها ليقترحوا لمجلس النواب أصولاً تتخد كأساس لدستور المملكة، واختارت الشيخ المفتي رحمه الله ليكون عضواً من أعضائه، فلم يزل يعمل فيه بكل نشاط مدة أربع سنوات.
مؤلفاته:
للشيخ "محمد شفيع" رحمه الله مؤلفات كثيرة نافعة قد جاوز عددها من مائة، معظمها باللغة الأردية في علم التفسير والحديث، والتصوف، والأدب، والكلام، والمعاشرة وغيرها.
ونذكرفي هذا الموضع بعض ما نجد باختصار:
1- معارف القرآن: وهو تفسير نفيس للقرآن الكريم، ألفه الشيخ باللغة الأردية في ثماني مجلدات ضخام، وقد قام بترجمته إلی اللغة الفارسية الشيخ "محمد يوسف حسين بور" من أبرز علماء السنة في إيران.
2- جواهر الفقه: وهي مجموعة قيمة لرسائل فقهية كتبها الشيخ رحمه الله علی موضوعات يكثر التسائل عنها.
3- ختم النبوة: وهو كتاب حافل للرد علی الدجاجلة القاديانيين.
4- سيرة خاتم الأنبياء: وهو كتاب وجيز لسيرة رسولنا الحبيب صلی الله علیه وسلم بجميع أنباءها الهامة.
5- آلات جديدة: و هو كتاب قيم جمع فيه الشيخ أحكام المخترعات الحديثة التي لم تكن زمن النبي علیه السلام ولا في عصر الفقهاء المجتهدين.
وفاته:
توفاه الله تعالی ليلة الحادية عشر من شهر شوال المكرم سنة 1396 هـ الموافق لشهر أكتوبر من سنة 1976 م وقد دفن في مقبرة «دارالعلوم كراتشي» وكان يوماً مشهوداً شهد جنازته نحو خمسين ألف رجل. رحمه الله تعالی رحمة واسعة وتقبل سعيه المشكور وتضحياته الغالیة في سبيل إعلاء كلمة الله ونشر رسالة الإسلام.
—————————————
أخذنا هذه الترجمة باختصار من مقدمة كتاب «أحكام علوم القرآن» للعلامة المفتي محمد شفيع رحمه الله، كتبها نجله فضيلة الشيخ المفتي محمد تقي العثماني حفظه الله.
الجمعة، 8 سبتمبر 2017
ترجمة العلامة علي بن سرور الحسني الأزهري الزَّنْكَلُوني رحمه الله
مع صور نادرة له
هو شيخ شيوخنا العلامة أبو الحسن علي بن سرور

وتلقى سنين تعليمه الأولى بالجامع الأحمدي بطنطا، ثم ارتحل إلى الأزهر الشريف، وتتلمذ على جماعة؛ منهم: الشيخ محمد عبده رحمه الله وأحبَّه، وكانت تربطه علاقة حب ووفاء ومودة بالشيخ رشيد رضا صاحب المناروحصل على العالمية سنة 1312، ثم تصدر للتدريس بالأزهر(1)،
قال أسامة الأزهرى فى أسانيد المصريين:
تصدر للتدريس ، فكان من دروسه أن درَّس تفسير : ( الكشاف ) للزمخشري في الرواق العباسي بالأزهر الشريف ، و أفادني بعض إخواني الكرام أن العلامة السيد عبد العزيز بن الصديق الغماري ممن حضر تلك الدروس ، و قد نصَّ هو على ذلك في : ( تعريف المؤتسي ) (2) (3)
و اشتهر صاحب الترجمة بين المفكرين و المثقفين ، و كانت له مقالات في الصحف و المجلات ، عالج فيها الكثير من نواحي الحياة الاجتماعية و الخلقية ، و له مناقشات و ردود على القس صمويل زويمر ، صاحب كتاب : ( الغارة على العالم الإسلامي ) ، و كان عضواً بمجلس إدارة جمعية الرابطة الشرقية ، و كان للجمعية آثار جليلة في متابعة شؤون المسلمين في جنوب شرق آسيا ، و إنهاء الخلافات بين المسلمين هناك .
و كان معروفاً في زمانه بسعة الأفق ، و المتابعة لمشكلات العالم الإسلامي
وكان له دورٌ بارز في ثورة 1919، حتى أنه مُنح إجازة مطلقة ثم فُصِل من الأزهر وتحدَّدتْ إقامتُه إلى بلدته زَنْكَلُون بدلًا من نفيه إلى الخارج، وكان له نشاطٌ في تأييد الأحزاب السياسية، وكان ضمن السبعين الذين فُصلوا من الأزهر سنة 1350 هـ أيام الشيخ الأحمدي الظواهري، ثم لمَّا تولَّى الشيخ محمد مصطفى المراغي مشيخة الأزهر أرجعهم إلى وظائفهم،
وتوفي الزنكلوني يوم 21 رمضان سنة 1359 بعد أن اعتراه مرضٌ ألزمه الفراش عدة شهور.
ومن مصنَّفاته:
«الدعوة والدعاة، أسباب التخلف ومنهج التطبيق»، طُبع بعد وفاته، وقدَّم له صديقُه الدكتور محمد البهي، ونُشر بمكتبة وهبة بعناية حفيده محمد الطاهر الزنكلوني، وكتب بأوله ترجمةً للشيخ لخَّصتُ منها هذه الأسطر.
وكان شجاعًا جريئًا في الحق، وكان هو أحد الأسباب في طرد المستشرق الخبيث زويمر من بلادنا بعد الغضب والضجة التي أحدثها الشيخ، وكانت له مقالاتٌ كثيرة عن الاستعمار.(4)
يروي عن :
1 - العلامة سيف الله بن إبراهيم بن عمر بن خفاجي السكندري ت 1310 هـ ، و هو عن البرهان الباجوري ، عن العلامة الشرقاوي و العلامة الشنواني بما في ثبتيهما.
2 - و يروي عن العلامة حسن بن محمد بن داود العروي المالكي - شيخ رواق الصعايدة بالأزهر - عن مصطفى بن أحمد المبلط الأحمدي الطنطاوي ، عن الأمير الكبير بما في ثبته.
3 - و يروي عن العلامة البرهان إبراهيم بن الحسن بن علي السقا الشبرانجومي ، عن الأمير الصغير ، عن والده الأمير الكبير بما في ثبته : ( سد الأرب ).
4 - و يروي عن الشيخ محمد بن أحمد بن عبد الله عليش المالكي ، عن أبيه ، عن محمد بن علي الشفراني.
5 - و يروي عن الشيخ حسن الطويل ، عن عبد الرحمن بن حسن الجبرتي المصري ، و هو عن جماعة منهم : السيد محمد مرتضى الزبيدي بأسانيده ، و السيد علي بن عبد البر الونائي.
6 - و يروي عن عبد الرزاق بن حسن بن علي البيطار الشامي ، عن محمد أمين البيطار ، عن الوجيه عبد الرحمن الكزبري الصغير ، عن أبيه ، عن محمد بن عقيلة المكي بما في ثبته.
7 ، 8 ، 9 - و يروي الزنكلوني عن : الجمال يوسف أفندي ، و محمد بن درويش الحوت الشامي ، و حسين الجسر الطرابلسي : ثلاثتهم عن الوجيه الكزبري الصغير ، و علي الرئيس الزمزمي ، و السيد بن عثمان الميرغني ، ثلاثتهم عن صالح بن محمد الفلاني بما في ثبته ( قطف الثمر ).
10 - و يروي عن العلامة السيد عبد الهادي نجا الأبياري الأزهري الشافعي بأسانيده ، و قد تقدمت في ترجمته من هذا الكتاب . " اهـ (5)
روايتنا عنه :
أقول أنا العبدالفقير #حاتم_شلبي أروي ما له عن جمع كبير من تلامذة مسند عصره العلامة محمد ياسين الفاداني رحمه الله تعالى ومنهم :
شيخنا العلامة أحمد معبد بن عبدالكريم ـوشيخنا العلامة مساعد البشير السوداني ـوشيخنا المحدث أحمد بن فخري بن محمد الرفاعي الشافعيـ ـوالشيخ المسند خالد بن عبدالكريم التركستاني ،وشيخنا الشيخ مجد مكي ـوشيخنا المعمر أحمد بن أبي بكر بن أحمد الحبشي ،وشيخنا المسند محمد بن أبي بكر بن أحمد الحبشي ـوشيخنا ماجد بن مسعود سليم رحمة الله ،وشيخنا حامد بن علوى الكاف رحمه الله،وشيخنا أحمد مسعودمحمد سليم رحمة الله ـوشيخنا عبدالمالك سلطان محمود ـوشيخنا سيف الرحمن بن عبدالمالك المهند وشيخنا أحمد محمد شريف المنبجي رحمه الله ،وشيخنا الدكتور عبدالقيوم بن عبدالغفور السندي ،وشيخنا أحمد بن حسين المعلم وشيخنا الفقيه الشيخ حسام الدين بن سليم بن بدوي بن عثمان الكيلاني الحسني، وشيخنا منصور بن كامل شهاب الدين المنصورى ثم القطري ،وشيخنا المقرئ البحاثة يحي بن عبدالرزاق الغوثاني وغيرهم كل هؤلاء عن العلامةالمسند علم الدين أبو الفيض محمد ياسين بن محمد عيسى أُودِي الفاداني المكي الشافعي وهو عن العلامة أبو الحسن علي بن سرور الحسني الأزهري الزنكلوني بأسانيده السابقة .
* قال شيخنا الشيخ يحي الغوثاني حفظه الله فيما كتب به إلينا على الشبكة :
(من الطرائف الإسنادية أن الشيخ الزنكلوني اجاز الفاداني عام 1355هـ والفاداني أجازني عام 1407 هـ فبين الإجازتين 52 سنة)أ.هـ
(ح) وأروى عن شيخنا المقرئ المسند يحي بن عبدالرزاق الغوثاني وهو عن شيخه عن العلامة الفقيه محمود بن عبد الدايم الأزهري الشافعي وهو عن العلامة الفقيه الأصولي المعمر الشيخ علي بن سرور الحسني الأزهري الزنكلوني بأسانيده السابقة .
(ح) وأروي عن شيخنا العلامة المحدث الأثري صبحى بن جاسم السامرائي رحمه الله تعالى ،وشيخنا العلامة مساعد بشير علي الحاج سعد محمد بشير الشهير بحاج السديرة الحسيني السوداني ـوشيخناالعلامة الدكتور رفعت بن فوزي بن عبد المطلب أبو شهبة الحنفي التيجاني المصري الازهري كلهم عن العلامة محمد الحافظ بن عبداللطيف بن سالم التجاني المصري المالكي الحسيني وهو عن العلامة الفقيه الأصولي المعمر الشيخ علي بن سرور الحسني الأزهري الزنكلوني بأسانيده السابقة .
(ح) قلت وأروي أعلى من ذلك عن شيخنا العلامة الآديب المعمر معوض عوض إبراهيم الأزهري المصري وهو عاليا عن العلامة الفقيه الأصولي المعمر الشيخ علي بن سرور الحسني الأزهري الزنكلوني بأسانيده السابقة .
وبهذا الإسناد أروي الحديث المسلسل بالمصريين ،وتفصيله فى رسالتى (تنوير العينين بالحديث المسلسل بالمصريين)(6)
(ح) كما أروي عاليا عن العلامة علم الدين أبو الفيض محمد ياسين بن محمد عيسى أُودِي الفاداني المكي الشافعي باجازته لإهل عصره التى شملتني فقد توفي فى (1410هـ) وهو عن العلامة أبو الحسن علي بن سرور الحسني الأزهري الزنكلوني بأسانيده السابقة .
وهذا أعلى ما يووجد الآن أن يكون بيننا وبين العلامة الزنكلوني رحمه الله رجل واحد .فالحمد لله على ما قدر وهدى .

-----------------------
1) منقول عن مقال للأخ أحمد موسى، (إن النبوغ صبر طويل)
2)أسانيد المصريين لاسامة الازهري من ص 558 - 561
3)تعريف المؤتسي ص 33 .
4)أسانيد المصريين السابق
5) انظر اسانيد المصريين ،وما كتبه شيخنا البحاثة يحي الغوثاني حفظه الله تعالى على الشبكة
6) انظر ص 17 من رسالة تنوير العينين بالحديث المسلسل بالمصريين للعبدالفقير
* الصورة الأولى صورة نادرة للعلامة علي بن سرور الحسني الأزهري الزنكلونيرحمه الله رحمة واسعة .
** الصورةالثاني لحفلة نادي العلويين بالقاهرة لتكريم الأمير على
الأشخاص المشار إليهم بأرقام في الصورة: الجالسين من اليمين إلى اليسار: 1- مؤلف كتب الأطفال الشهير في مصر كامل كيلاني - محمد علي الطاهـر 2- الميرزا مهدي رفيع مشكي ، عميد الجالية الإيرانية في مصر 3- المحتفى به الأمير علي عبد الكريم 4- الشيخ هو العلامة أبو الحسن علي بن سرور الحسني الأزهري الزنكلوني 5- عبد الله الجفري ، مستشار سلاطين لحج .
الواقفين: الشيخ محمد صالح المسمري الذي أعدمه الإمام أحمد إمام اليمن – الشيخ والشاعر جلال الحنفي الذي أصبح مدرساً للغة العربية في جامعة بيكين بالصين – الشيخ محمد محمود الصوّاف من العراق – الشيخ يوسف المشهدي ، وهو شيخ مصري من أصل فلسطيني – الوطني الجزائري الفضيل الورتلاني – أحمد حسين ، وطني مصري وصاحب جريدة "مصر الفتاة" ، ثم زعيم الحزب الإشتراكي المصري - باقي الأشخاص غير معروفين
الأربعاء، 4 فبراير 2015
أحمد محمد شاكر "إمام المحدثين"
أحمد محمد شاكر "إمام المحدثين"
في الساعة السادسة بعد فجر يوم السبت 26 من ذي القعدة سنة 1377 هـ =14 من يونية سنة 1958م، فقد العالم الإسلامي إماماً من أئمة علم الحديث في هذا القرن، هو الأستاذ أحمد محمد شاكر، المحدث المشهور، وهو أحد الأفذاذ القلائل الذين درسوا الحديث النبوي في زماننا دراسة وافية، قائمة على الأصول التي اشتهر بها أئمة هذا العلم في القرون الأولى. وكان له اجتهاد عُرف به في جرح الرجال وتعديلهم، أفضى به إلى مخالفة القدماء والمحدثين، ونصر رأيه بالأدلة البيِّنة، فصار له مذهب معروف بين المشتغلين بهذا العلم، على قلّتهم.
وقد تولى القضاء في مصر أكثر من ثلاثين سنة، فكانت له أحكام مشهورة في القضاء الشرعي، قضى فيها باجتهاده غير مقلّد ولا متّبع، وكان اجتهاده في الأحكام مبنياً على سعة معرفته بالسنة النبوية، التي اشتغل بدراستها منذ نشأته إلى أن لقي ربه.
وهو أحمد بن محمد شاكر بن أحمد بن عبد القادر من آل أبي علياء، ينتهي نسبه إلى الحسين بن علي بن أبي طالب، وأبوه الإمام العلامة الشيخ محمد شاكر وكيل الأزهر سابقاً، وجدّه لأمّه هو العالم الجليل الشيخ هارون عبد الرازق، وأبوه وأمه جميعاً من مديرية جرجا بصعيد مصر.
فلما صدر الأمر بإسناده منصب قاضي قضاة السودان، إلى والده الشيخ محمد شاكر، في 10 من ذي القعدة سنة 1317هـ=11 من مارس سنة 1900م عقب خمود الثورة المهدية، رحل بولده إلى السودان، فألحق ولده "أحمد" بكلية غوردون، فبقي تلميذاً بها حتى عاد أبوه من السودان، وتولى مشيخة علماء الإسكندرية في 26 من أبريل سنة 1904، فألحق ولده من يومئذ بمعهد الإسكندرية الذي يتولاه.
وكان السيد أحمد منذ عقل وطلب العلم، محباً للأدب والشعر، كدأب الشباب في صدر أيامه، فاجتمع في الإسكندرية وأديب من أدباء زمانه في هذا الثغر؛ هو الشيخ عبد السلام الفقي، من أسرة الفقي المشهورة بالمنوفية، فحرضه على طلب الأدب، وحرّض معه أخاه علياً، وهو أصغر منه، وصار يقرأ لهما أصول كتب الأدب في المنزل زمناً طويلاً. ثم أراد الشيخ عبد السلام أن يختبر تلميذيه، فكلفهما إنشاء قصيدة من الشعر، فعمل علي --أطال الله بقاءه-، أبياتاً، أما أحمد فلم يستطع أن يصنع غير شطر واحد ثم عجز؛ فمن يومئذ انصرف أخوه علي إلى الأدب، وانصرف هو إلى دراسة علم الحديث بهمة لا تعرف الكلل منذ سنة 1909 إلى يوم وفاته. ولكنه لم ينقطع قط عن قراءة الآداب: حديثها وقديمها، مؤلفها ومترجمها، كما سيظهر بعد من الكتب التي تولى نشرها في حياته -رحمه الله-.
وكان أول شيوخه في معهد الإسكندرية الشيخ "محمود أبو دقيقة"، وهو أحدالعلماء الذين تركوا في حياة الفقيد أثراً لا يمحى؛ فهو الذي حبب إليه الفقه وأصوله، ودرّبه وخرّجه في الفقه حتى تمكن منه. ولم يقتصر فضل هذا الشيخ على تعليمه الفقه، بل علمه أيضاً الفروسية وركوب الخيل، والرماية والسباحة، فتعلق السيد أحمد بركوب الخيل والرماية، ولم يتعلق بالسباحة تعلقاً يذكر.
أما أعظم شيوخه أثراُ في حياته، فهو والده الشيخ "محمد شاكر"؛ فقد قرأ له ولإخوانه التفسير مرتين، مرة في تفسير البغوي، وأخرى في تفسير النسفي، وقرأ لهم صحيح مسلم، وسنن الترمذي والشمائل، وبعض صحيح البخاري. وقرأ لهم في الأصول: جمع الجوامع، وشرح الأسنوي على المنهاج، وقرأ لهم في المنطق: شرح الخبيصي، وشرح القطب على الشمسية، وقرأ لهم في البيان: الرسالة البيانية، وقرأ لهم في فقه الحنفية كتاب الهداية على طريقة السلف في استقلال الرأي وحرية الفكر، ونبذ العصبية لمذهب معين. وكثيراً ما خالف والده في هذه الدروس مذهب الحنفية عند استعراض الآراء وتحكيم الحجة والبرهان، ورجح ما نصره الدليل الصحيح. هكذا قال السيد أحمد في ترجمة والده. وقد ظهر أثر والده هذا ظهوراً بيناً في دراسة الشيخ أحمد للحديث، وفي أحكامه التي قضى بها في مدة توليه القضاء بمصر.
وكان لوالده أعظم الأثر في توجيهه إلى دراسة علم الحديث منذ سنة 1909، فلما كانت سنة 1911 اهتم، السيد أحمد، بقراءة مسند أحمد بن محمد بن حنبل -رحمه الله-، وظل منذ ذلك اليوم مشغولاً بدراسته حتى ابتدأ في طبع شرحه على المسند سنة 1365 من الهجرة = سنة 1946 من الميلاد، كما بين ذلك مختصراً في مقدمة المسند.
ولما انتقل والده من الإسكندرية إلى القاهرة وكيلاً لمشيخة الأزهر في ربيعالآخر سنة 1327هـ 29 من أبريل سنة 1909، التحق السيد أحمد، هو وأخوه السيد علي بالأزهر، فكانت إقامته في القاهرة بدء عهد جديد في حياته، فاتصل بعلمائها ورجالها، وعرف الطريق إلى دور كتبها في مساجدها وغير مساجدها. وتنقل بين دكاكين الكتبية. وكانت القاهرة يومئذ مستراداً لعلماء البلاد الإسلامية، وكان من التوفيق أن حضر إلى القاهرة من المغرب الأقصى السيد عبد الله بن إدريس السنوسي، عالم المغرب ومحدثها، فتلقى عنه طائفة كبيرة من صحيح البخاري، فأجازه هو وأخاه برواية البخاري، ورواية باقي الكتب الستة. ولقي بها أيضاً الشيخ محمد بن أمين الشنقيطي، فأخذ عنه كتاب بلوغ المرام، وأجازه به وبالكتب الستة، ولقي أيضاً الشيخ أحمد بن الشمس الشنقيطي، عالم القبائل الملثمة، فأجازه هو وأخاه بجميع علمه. وتلقى أيضاً من الشيخ شاكر العراقي. وكان أسلوبه في التحديث أن يسأله أحد طلابه عن مسألة، فيروي عندئذ كل ما ورد فيها من الأحاديث في جميع كتب السنة بإسنادها، مع بيان اختلاف روايتها. فأجازه وأجاز علياً بجميع كتب السنة. ولقي أيضاً في القاهرة من علماء السنة الشيخ "طاهر" الجزائري عالم سورية المتنقل، والسيد "محمد رشيد رضا" صاحب المنار، ولقي كثيراً غير هؤلاء من علماء السنة يطول ذكرهم بالتفصيل.
وهذا اللقاء المتتابع للعلماء، هو الذي مهّد لهذا العالم أن يستقلّ بمذهب في علم الحديث، حتى استطاع أخيراً أن يقف في منتصف هذا القرن علماً مشهوراً لا ينازعه في إمارة التحديث إلا قليل.
ولما حاز شهادة العالمية من الأزهر في سنة 1917، عُين مدرساً بمدرسة ماهر، ولكن لم يبق بها غير أربعة أشهر، ثم عين موظفاً قضائياً ثم قاضياً، وظل في القضاء حتى أحيل إلى المعاش في سنة 1951 عضواً بالمحكمة العليا، ولكنه لم ينقطع في خلال ذلك عن دراساته، وعن المشاركة في نشر التراث الإسلامي، في الحديث والفقه والأدب.
وأول كتاب عرف به الشيخ "أحمد محمد شاكر" وعرف به إتقانه وتفوقه، هو نشره رسالة الإمام الشافعي، عن أصل تلميذه الربيع بن سليمان، الذي كتبه بخطه في حياة الشافعي من إملائه. ونشره رسالة الشافعي يعدّ من أعظم الآثار التي تولى العلماء نشرها في هذا العصر.
ثم شرح سنن الترمذي شرحاً دقيقاً، ولكنه لم يتمه، وشارك في نشر شرح "سنن أبي داود"، ونشر كتاب جماع العلم للشافعي، وشارك أيضاً في نشر المحلى لابن حزم، وشرح صحيح ابن حبان، ولم ينشر منه غير الجزء الأول.
أما عمله الذي استولى به على الغايات فهو شرحه على مسند أحمد بن حنبل، أصدر منه خمسة عشر جزءاً فيها من البحث والفقه والمعرفة ما لم يلحقه فيه أحد في زمانه هذا.
ونشر من كتب الأدب والشعر، كتاب "لباب الآداب" لأسامة بن منقذ، والشعر والشعراء لابن قتيبة، والمفضّليات للمفضل الضبي، والأصمعيات للأصمعي، وشاركه في نشرهما ابن خاله الأستاذ "عبد السلام محمد هارون"، ونشر كتاب المعرّب للجواليقي نشراً علمياً دقيقاً.
وشارك أخاه الأستاذ "محمود محمد شاكر" في تفسير الطبري، فتولى جزءاً من تخريج أحاديثه إلى الجزء التاسع، وعلق على بعضها إلى الجزء الثالث عشر، ثم وافته المنية، ولم ينظر بعد في أحاديث الجزء الرابع عشر.
وكان قبل وفاته، -رحمه الله-، قد شرع في اختصار تفسير القرآن لابن كثير،وسماه "عمدة التفسير"، وصل فيه إلى الجزء الخامس من عشرة أجزاء. وقد قصد فيه الإبانة عن معاني القرآن، بما يوافق حاجة المتوسطين من المثقفين، مع المحافظة على ألفاظ المؤلف ما استطاع.
أما سائر الكتب التي تولى نشرها فهي كثيرة يطول ذكرها. وله في جميع ما نشره وألفه تعليقات دافع فيها عن أحكام الإسلام وآدابه دفاعاً تفرد به، ونطق فيه بالحق الذي يراه، غير متهيب ولا متلجلج.
وأما أهم ما ألفه فهو كتاب نظام الطلاق في الإسلام دل فيه على اجتهاده وعدم تعصبه لمذهب من المذاهب، واستخرج فيه نظام الطلاق من نص القرآن، ومن بيان السنة في الطلاق، وكان لظهور هذا الكتاب ضجة عظيمة بين العلماء، ولكنه دافع فيه عن اجتهاده دفاعاً مؤيداَ بالحجة والبرهان، ومن قرأ الكتاب عرف كيف يكون الاحتجاج في الشريعة، وظهر له فضل هذا الرجل وقدرته على ضبط الأصول الصحيحة، وضبط الاستنباط فيها ضبطاً لا يختل.
فرحم الله فقيدنا، وبعث في هذه الأمة من يخلفه للنهوض بما ابتدأه.
محمود محمد شاكر