اخر اخبارالموقع
أحدث المواضيع

ابحث فى الموقع

الأربعاء، 4 فبراير 2015

أحمد محمد شاكر "إمام المحدثين"

بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد محمد شاكر "إمام المحدثين"
في الساعة السادسة بعد فجر يوم السبت 26 من ذي القعدة سنة 1377 هـ =14 من يونية سنة 1958م، فقد العالم الإسلامي إماماً من أئمة علم الحديث في هذا القرن، هو الأستاذ أحمد محمد شاكر، المحدث المشهور، وهو أحد الأفذاذ القلائل الذين درسوا الحديث النبوي في زماننا دراسة وافية، قائمة على الأصول التي اشتهر بها أئمة هذا العلم في القرون الأولى. وكان له اجتهاد عُرف به في جرح الرجال وتعديلهم، أفضى به إلى مخالفة القدماء والمحدثين، ونصر رأيه بالأدلة البيِّنة، فصار له مذهب معروف بين المشتغلين بهذا العلم، على قلّتهم.
وقد تولى القضاء في مصر أكثر من ثلاثين سنة، فكانت له أحكام مشهورة في القضاء الشرعي، قضى فيها باجتهاده غير مقلّد ولا متّبع، وكان اجتهاده في الأحكام مبنياً على سعة معرفته بالسنة النبوية، التي اشتغل بدراستها منذ نشأته إلى أن لقي ربه.
وهو أحمد بن محمد شاكر بن أحمد بن عبد القادر من آل أبي علياء، ينتهي نسبه إلى الحسين بن علي بن أبي طالب، وأبوه الإمام العلامة الشيخ محمد شاكر وكيل الأزهر سابقاً، وجدّه لأمّه هو العالم الجليل الشيخ هارون عبد الرازق، وأبوه وأمه جميعاً من مديرية جرجا بصعيد مصر.
 وَوُلِد الشيخ أحمد، -رحمه الله-، بعد فجر يوم الجمعة 29 من جمادى الآخرة سنة 1309، الموافق 29 من يناير سنة 1892، بمنزل والده بدرب الإنسية، بقسم الدرب الأحمر، بالقاهرة. وسماه أبوه: "أحمد شمس الأئمة، أبو الأشبال"، وكان أبوه يومئذ أميناً للفتوى مع أستاذه الشيخ العباسي المهدي، مفتي الديار المصرية.
فلما صدر الأمر بإسناده منصب قاضي قضاة السودان، إلى والده الشيخ محمد شاكر، في 10 من ذي القعدة سنة 1317هـ=11 من مارس سنة 1900م عقب خمود الثورة المهدية، رحل بولده إلى السودان، فألحق ولده "أحمد" بكلية غوردون، فبقي تلميذاً بها حتى عاد أبوه من السودان، وتولى مشيخة علماء الإسكندرية في 26 من أبريل سنة 1904، فألحق ولده من يومئذ بمعهد الإسكندرية الذي يتولاه.
وكان السيد أحمد منذ عقل وطلب العلم، محباً للأدب والشعر، كدأب الشباب في صدر أيامه، فاجتمع في الإسكندرية وأديب من أدباء زمانه في هذا الثغر؛ هو الشيخ عبد السلام الفقي، من أسرة الفقي المشهورة بالمنوفية، فحرضه على طلب الأدب، وحرّض معه أخاه علياً، وهو أصغر منه، وصار يقرأ لهما أصول كتب الأدب في المنزل زمناً طويلاً. ثم أراد الشيخ عبد السلام أن يختبر تلميذيه، فكلفهما إنشاء قصيدة من الشعر، فعمل علي --أطال الله بقاءه-، أبياتاً، أما أحمد فلم يستطع أن يصنع غير شطر واحد ثم عجز؛ فمن يومئذ انصرف أخوه علي إلى الأدب، وانصرف هو إلى دراسة علم الحديث بهمة لا تعرف الكلل منذ سنة 1909 إلى يوم وفاته. ولكنه لم ينقطع قط عن قراءة الآداب: حديثها وقديمها، مؤلفها ومترجمها، كما سيظهر بعد من الكتب التي تولى نشرها في حياته -رحمه الله-.
وكان أول شيوخه في معهد الإسكندرية الشيخ "محمود أبو دقيقة"، وهو أحدالعلماء الذين تركوا في حياة الفقيد أثراً لا يمحى؛ فهو الذي حبب إليه الفقه وأصوله، ودرّبه وخرّجه في الفقه حتى تمكن منه. ولم يقتصر فضل هذا الشيخ على تعليمه الفقه، بل علمه أيضاً الفروسية وركوب الخيل، والرماية والسباحة، فتعلق السيد أحمد بركوب الخيل والرماية، ولم يتعلق بالسباحة تعلقاً يذكر.
أما أعظم شيوخه أثراُ في حياته، فهو والده الشيخ "محمد شاكر"؛ فقد قرأ له ولإخوانه التفسير مرتين، مرة في تفسير البغوي، وأخرى في تفسير النسفي، وقرأ لهم صحيح مسلم، وسنن الترمذي والشمائل، وبعض صحيح البخاري. وقرأ لهم في الأصول: جمع الجوامع، وشرح الأسنوي على المنهاج، وقرأ لهم في المنطق: شرح الخبيصي، وشرح القطب على الشمسية، وقرأ لهم في البيان: الرسالة البيانية، وقرأ لهم في فقه الحنفية كتاب الهداية على طريقة السلف في استقلال الرأي وحرية الفكر، ونبذ العصبية لمذهب معين. وكثيراً ما خالف والده في هذه الدروس مذهب الحنفية عند استعراض الآراء وتحكيم الحجة والبرهان، ورجح ما نصره الدليل الصحيح. هكذا قال السيد أحمد في ترجمة والده. وقد ظهر أثر والده هذا ظهوراً بيناً في دراسة الشيخ أحمد للحديث، وفي أحكامه التي قضى بها في مدة توليه القضاء بمصر.
وكان لوالده أعظم الأثر في توجيهه إلى دراسة علم الحديث منذ سنة 1909، فلما كانت سنة 1911 اهتم، السيد أحمد، بقراءة مسند أحمد بن محمد بن حنبل -رحمه الله-، وظل منذ ذلك اليوم مشغولاً بدراسته حتى ابتدأ في طبع شرحه على المسند سنة 1365 من الهجرة = سنة 1946 من الميلاد، كما بين ذلك مختصراً في مقدمة المسند.
ولما انتقل والده من الإسكندرية إلى القاهرة وكيلاً لمشيخة الأزهر في ربيعالآخر سنة 1327هـ 29 من أبريل سنة 1909، التحق السيد أحمد، هو وأخوه السيد علي بالأزهر، فكانت إقامته في القاهرة بدء عهد جديد في حياته، فاتصل بعلمائها ورجالها، وعرف الطريق إلى دور كتبها في مساجدها وغير مساجدها. وتنقل بين دكاكين الكتبية. وكانت القاهرة يومئذ مستراداً لعلماء البلاد الإسلامية، وكان من التوفيق أن حضر إلى القاهرة من المغرب الأقصى السيد عبد الله بن إدريس السنوسي، عالم المغرب ومحدثها، فتلقى عنه طائفة كبيرة من صحيح البخاري، فأجازه هو وأخاه برواية البخاري، ورواية باقي الكتب الستة. ولقي بها أيضاً الشيخ محمد بن أمين الشنقيطي، فأخذ عنه كتاب بلوغ المرام، وأجازه به وبالكتب الستة، ولقي أيضاً الشيخ أحمد بن الشمس الشنقيطي، عالم القبائل الملثمة، فأجازه هو وأخاه بجميع علمه. وتلقى أيضاً من الشيخ شاكر العراقي. وكان أسلوبه في التحديث أن يسأله أحد طلابه عن مسألة، فيروي عندئذ كل ما ورد فيها من الأحاديث في جميع كتب السنة بإسنادها، مع بيان اختلاف روايتها. فأجازه وأجاز علياً بجميع كتب السنة. ولقي أيضاً في القاهرة من علماء السنة الشيخ "طاهر" الجزائري عالم سورية المتنقل، والسيد "محمد رشيد رضا" صاحب المنار، ولقي كثيراً غير هؤلاء من علماء السنة يطول ذكرهم بالتفصيل.
وهذا اللقاء المتتابع للعلماء، هو الذي مهّد لهذا العالم أن يستقلّ بمذهب في علم الحديث، حتى استطاع أخيراً أن يقف في منتصف هذا القرن علماً مشهوراً لا ينازعه في إمارة التحديث إلا قليل.
ولما حاز شهادة العالمية من الأزهر في سنة 1917، عُين مدرساً بمدرسة ماهر، ولكن لم يبق بها غير أربعة أشهر، ثم عين موظفاً قضائياً ثم قاضياً، وظل في القضاء حتى أحيل إلى المعاش في سنة 1951 عضواً بالمحكمة العليا، ولكنه لم ينقطع في خلال ذلك عن دراساته، وعن المشاركة في نشر التراث الإسلامي، في الحديث والفقه والأدب.
وأول كتاب عرف به الشيخ "أحمد محمد شاكر" وعرف به إتقانه وتفوقه، هو نشره رسالة الإمام الشافعي، عن أصل تلميذه الربيع بن سليمان، الذي كتبه بخطه في حياة الشافعي من إملائه. ونشره رسالة الشافعي يعدّ من أعظم الآثار التي تولى العلماء نشرها في هذا العصر.
ثم شرح سنن الترمذي شرحاً دقيقاً، ولكنه لم يتمه، وشارك في نشر شرح "سنن أبي داود"، ونشر كتاب جماع العلم للشافعي، وشارك أيضاً في نشر المحلى لابن حزم، وشرح صحيح ابن حبان، ولم ينشر منه غير الجزء الأول.
أما عمله الذي استولى به على الغايات فهو شرحه على مسند أحمد بن حنبل، أصدر منه خمسة عشر جزءاً فيها من البحث والفقه والمعرفة ما لم يلحقه فيه أحد في زمانه هذا.
ونشر من كتب الأدب والشعر، كتاب "لباب الآداب" لأسامة بن منقذ، والشعر والشعراء لابن قتيبة، والمفضّليات للمفضل الضبي، والأصمعيات للأصمعي، وشاركه في نشرهما ابن خاله الأستاذ "عبد السلام محمد هارون"، ونشر كتاب المعرّب للجواليقي نشراً علمياً دقيقاً.
وشارك أخاه الأستاذ "محمود محمد شاكر" في تفسير الطبري، فتولى جزءاً من تخريج أحاديثه إلى الجزء التاسع، وعلق على بعضها إلى الجزء الثالث عشر، ثم وافته المنية، ولم ينظر بعد في أحاديث الجزء الرابع عشر.
وكان قبل وفاته، -رحمه الله-، قد شرع في اختصار تفسير القرآن لابن كثير،وسماه "عمدة التفسير"، وصل فيه إلى الجزء الخامس من عشرة أجزاء. وقد قصد فيه الإبانة عن معاني القرآن، بما يوافق حاجة المتوسطين من المثقفين، مع المحافظة على ألفاظ المؤلف ما استطاع.
أما سائر الكتب التي تولى نشرها فهي كثيرة يطول ذكرها. وله في جميع ما نشره وألفه تعليقات دافع فيها عن أحكام الإسلام وآدابه دفاعاً تفرد به، ونطق فيه بالحق الذي يراه، غير متهيب ولا متلجلج.
وأما أهم ما ألفه فهو كتاب نظام الطلاق في الإسلام دل فيه على اجتهاده وعدم تعصبه لمذهب من المذاهب، واستخرج فيه نظام الطلاق من نص القرآن، ومن بيان السنة في الطلاق، وكان لظهور هذا الكتاب ضجة عظيمة بين العلماء، ولكنه دافع فيه عن اجتهاده دفاعاً مؤيداَ بالحجة والبرهان، ومن قرأ الكتاب عرف كيف يكون الاحتجاج في الشريعة، وظهر له فضل هذا الرجل وقدرته على ضبط الأصول الصحيحة، وضبط الاستنباط فيها ضبطاً لا يختل.
فرحم الله فقيدنا، وبعث في هذه الأمة من يخلفه للنهوض بما ابتدأه.
محمود محمد شاكر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق