اخر اخبارالموقع
أحدث المواضيع

ابحث فى الموقع

الثلاثاء، 28 يوليو 2015

في ظلال قوله تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾





 
في ظلال قوله تعالى:
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾

كلمة ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾ [الفاتحة: 2]: هي ثَناءُ الله على نفسه في كتابه، ودعاءُ الملائكة والنبيِّين، ودَأب الصَّالحين والمتَّقين، ودعوتهم في دَار النَّعيم، وهي أوَّل ما نَطق بها البشرُ على الإطلاق على لسان أبيهم آدم عليه السلام بإذنه تعالى، وهذا إن دلَّ فإنَّما يدلُّ على عَظيم قَدرها، ومحبَّة الله عزَّ وجل لها، وهي أول آية في سورة الفاتحة على قول البعض، وثانيها على قول البعض الآخر، التي هي أفضل وأَعظم سُوَر القرآن بالاتِّفاق، جملة رائعة وطيِّبة كثيرة النَّفع، لها فَضل عَظيم، وثوابٌ جزيل، وأَجر جسيم عند الله؛ حيث أَعطى من فضله وكَرمه هذا المقدار العظيم لقائلها.



ولذا سنعيش في معناها وبعضِ ظلالها وفضلِها ومكانتها في القرآن والسنَّة.

الحَمد لغة: ضدُّ الذَّم، يُقال: حمدتُ الرجل أَحمده حمدًا ومَحمدًا، فهو محمودٌ وحمِيد، يُقال: حمَّد اللهَ بالتَّشديد؛ أي: أَثنى عليه المرَّة بعد المرَّة أو بعد الأخرى، وقال: الحمد لله.

﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾ [الفاتحة: 2]: معناه الثَّناء بالكلام على الجَميل الاختياري على وجه التعظيم، فمورده: اللسان والقلب، والشكر يكون باللِّسان والجَنان والأركان؛ فهو أعمُّ من الحمد متعلَّقًا، وأخص منه سببًا؛ لأنَّه يكون في مُقابلة النِّعمة، والحمد أعمُّ سببًا وأخص متعلَّقًا؛ لأنَّه يكون في مقابلة النِّعمة وغيرِها، فبينهما عمومٌ وخصوص وجهي، يَجتمعان في مادَّة وينفرِد كلُّ واحد عن الآخر في مادَّة[1]؛ اهـ.

مثال الأول: إذا وجدتَ شخصًا ما يُدعى عثمان مثلاً "يصلِّي صلاةً تامَّة"، فقلتَ: عثمان رجلٌ صالح، أو عثمان رجلٌ تقِيٌّ...، فقولُك هذا ليس في مقابلة نِعمة.
ومثال الثاني: ما إذا ساعدَك عثمان مثلاً في شيء ما أو أمرٍ، فقلتَ: عثمان رجلٌ تقيٌّ أو كريم...، فقولك هذا في مقابلة نِعمة معيَّنة.

وعرَّفه بعضُهم بقولهم: الحمد: هو فِعل يُنبئ عن تَعظيم المنعِم بسبب كونِه منعِمًا على الحامد وغيرِه، واللاَّم في الحمد للاستحقاق، كما يُقال: الدار لزيد[2].

والبعض يقول: إنَّ الحمد بمعنى الشُّكر والراجح أنَّ الحمد أعمُّ.

تعريف الشكر والفرق بينه وبين الحمد:


الشكر لغةً: الاعتراف بالإحسان، فيُقال: شكرتُ اللهَ وشكرتُ نِعمةَ الله.
ويُقال: هو الثَّناء على المحسِن بما أَولاه مِن معروف، وتقول: شكرتُه، وشكَرتُ له، وقيل: اللام أفصح، والشكران خِلاف الكُفران[3].
ومعناه اصطلاحًا: "يُقال: إنَّه فِعل يُشعر بتَعظيم المنعِم بسبب كونِه منعمًا"[4]، بالقلبِ واللِّسان والأركان؛ فبالقلب إيقانًا واعترافًا بهذه النِّعمة، وباللِّسان ثناءً على المنعِم ونفيَ جحود هذه النِّعمة والكُفران بها، وأمَّا الجوارح والأركان: فباستعمال نِعَم المنعِم جلَّ في عُلاه في مرضاته وطاعتِه، والحذَر من الاستعانَة بها في معصيته وكفرانه.
ويقال: الشُّكر هو ظُهور أثَر النِّعَم الإلهيَّة على العبد في قلبه إيمانًا، وفي لسانه حمدًا وثناءً، وفي جوارحه عبادةً وطاعة.

وكلُّ هذا بمعنًى واحد...، ويتعلَّق بأمورٍ ثلاثة، وهي: القلب واللسان والجوارِح، ومِن هنا نرى اختلاف الحمد عن الشكر؛ حيث إنَّ الحمد متعلِّق بأمرين، وهما: اللِّسان والجَنان - أي: القلب - فقط، فالحمد يكون باللِّسان والجَنان، والشكر يكون باللِّسان والجَنان والأركان.
يقول الشاعر:
أفادَتكمُ النعماءُ منِّي ثلاثةً ♦♦♦ يدِي ولِساني والضميرَ المحجَّبَا
قال ابنُ منظور في اللِّسان: والحمد والشُّكر متقاربان، والحمدُ أَعمُّهما؛ لأَنَّك تَحمد الإِنسانَ على صفاته الذاتيَّة وعلى عطائه، ولا تشكره على صفاته، ومنه الحديث: ((الحمدُ رأْس الشكر، ما شكر اللهَ عبدٌ لا يحمَدُه))، كما أَنَّ كلمةَ الإِخلاص رأْس الإِيمان، وإِنما كان رأْس الشكر؛ لأنَّ فيه إِظهار النعمة والإِشادة بها، ولأَنَّه أَعم منه، فهو شُكرٌ وزيادة؛ انتهى.
وفي تاج العروس: وقال ثَعلب: الحمدُ يكون عن يَد وعن غير يدٍ، والشُّكرُ لا يكون إلاَّ عن يد.

وقال الأزهريُّ: الشُّكر لا يكون إلاَّ ثناءً ليد أولَيْتَها، والحمدُ قد يكون شُكرًا للصنيعة، ويكون ابتداءً للثَّناء على الرَّجل، فحمدُ الله: الثَّناءُ عليه، ويكونُ شُكرًا لنِعمِه التي شملَت الكُلَّ، والحمدُ أعمُّ من الشُّكر. اهـ.
فممَّا سبق تبيَّن أنَّ الحمد أوسع من الشُّكر بكثير؛ إذ يتعلَّق بالحالة النفسيَّة، بينما الشكر هو السلوك قولاً أو فِعلاً، فالمسلم يمتلِئ قلبُه حمدًا لله فيفيض لسانُه وتفيض جوارحُه شكرًا؛ لذا فالله تعالى حين يتحدَّث عن الشكر فإنَّما يذكر الموقفَ العمليَّ الملموس الذي يَنبغي أن يكون عليه المؤمن.
عظيم قدر الحمد في القرآن:
قد وردَت جملة الحمد لله في القرآن بتنسيقٍ عجيب، وترتيبٍ محكم، ومواضع معجزة في كتاب الله تعالى.
فمثلاً: قد جاءَت كلمة الحمد مقرونة بلفظ الجلالة الله ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾ [الفاتحة: 2] خمس مرَّات في أوائل خمس سوَر قرآنيَّة، هي:
سورة الفاتحة: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الفاتحة: 2]، وسورة الأنعام:﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ [الأنعام: 1]، وسورة الكهف: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴾ [الكهف: 1]، وسورة سبأ: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ [سبأ: 1]، وسورة فاطر: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [فاطر: 1].

جاءت كلمة (الحمد) مقترنة بعبارة ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ في (6) مواضع في القرآن، هي: الآية (2) من سورة الفاتحة (1)، والآية (45) من سورة الأنعام (6)، والآية (10) من سورة يونس (10)، والآية (182) من سورة الصافات (37)، والآية (75) من سورة الزمر (39)، وفي الآية (65) من سورة غافر (40).
ثمَّ وجدنا من عَجيب النسق القرآني أنَّ هذه العبارة جاءَت أيضًا لتَختم خمسَ سوَرٍ قرآنيَّة أخرى، هي: الإسراء: ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ﴾ [الإسراء: 111]، والنمل: ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [النمل: 93]، والصافات: ﴿ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 182]، والزمر: ﴿ وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الزمر: 75]، والجاثية: ﴿ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الجاثية: 36، 37].

الحمد لله في السنَّة النبوية:

وأيضًا لـ "الحَمد لله" في سنَّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم نَصيب أوفى، وقَدْر عظيم؛ حيث وردَت كثير من الآثار تبيِّن فضلَها، وتحثُّ على ذِكرها.
ثبتَ في صحيح مسلم عن سَمُرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((أحبُّ الكلام إلى الله تعالى أربع، لا يضرُّك بأيِّهنَّ بدأتَ: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر))[5].
وفي وجه آخر: ((أفضل الكلام بَعد القرآن أربعٌ، وهنَّ من القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)).
عن الأسود بن سريعٍ قال: قلتُ: يا رسُول الله، ألا أنشدُك محامِد حمدتُ بها ربِّي تبارك وتعالى، قال: ((أمَا إنَّ ربَّك عزَّ وجلَّ يُحبُّ الحمدَ))[6].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((التسبيح نِصف الميزان، والحمد لله تَملؤه، ولا إله إلاَّ الله ليس لها دون الله حِجاب حتى تَخلص إليه))؛ رواه الترمذي ولم يروه البخاري وضعفه الألباني وغيره.
وختم الإمام البخاريُّ رحمه الله صحيحَه بقوله صلى الله عليه وسلم: ((كَلمتان خفيفتان على اللِّسان، ثَقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرَّحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم))؛ رواه البخاريُّ والترمذيُّ، والنسائي وابن ماجه.

وعن وائل بن حُجر رضي الله عنه قال: صلَّيتُ خلفَ رسُول الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا كبَّر رفع يديه أسفل مِن أُذُنيه، فلمَّا قرأ: ﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 7] قال: ((آمين))، فسمعتُه وأنا خلفه، قال: فسمع رسولُ الله صلى الله عليه وسلَّم رجُلاً يقولُ: الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مُبارَكًا فيه، فلمَّا سلَّم النبيُّ صلى الله عليه وسلم من صلاته قال: ((مَن صاحِبُ الكَلمة في الصَّلاة؟))، فقال الرَّجلُ: أنا يا رسُول الله، وما أردتُ بها بأسًا، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلَّم: ((لقد ابتدرها اثنا عشر ملَكًا، فما نَهْنَهَها شيءٌ دُون العرش))[7].

عن كعب الأحبار أنَّه قال: "والذي نفسُ كعبٍ بيده، إنَّ لِسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، دويًّا حول العرش كدويِّ النَّحل، يذكرون بصاحبهنَّ، والعمل الصالح في الخزائن"[8].


كلام بعض أهل العلم عليها:
يقول ابن القيم: "فالعبد لو استنفدَ أنفاسَه كلَّها في حمد ربِّه على نِعمةٍ من نِعَمه، كان ما يجب عليه من الحمد عليها فوق ذلك وأضعافَ أضعافِه".
وقال في موضعٍ آخر: "وبالجملة، فكلُّ صفة عليا واسم حسَن وثناء جميل، وكلُّ حمد ومدح، وتسبيح وتنزيه، وتقديس وجلال وإكرام - فهو لله عزَّ وجلَّ على أكمل الوجوه وأتمِّها وأدومها، وجميع ما يُوصف به ويُذكر به ويُخبَر عنه به فهو حمدٌ له وثَناء وتسبيح وتَقديس، فسبحانه وبحمده لا يحصِي أحدٌ من خلقه ثناءً عليه؛ بل هو كما أَثنى على نفسه، وفوق ما يُثني به عليه خَلقُه، فله الحمد أولاً وآخرًا حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يَنبغي لكرم وجهه وعزِّ جلاله، ورفيعِ مجده وعلو جده[9]؛ اهـ.
قال الإمام النووي رحمه الله:
مسألة: يُستحبُّ ابتداءُ كل أمرٍ له حال يُهتمُّ به بالحمد لله رب العالمين، وأن يُثنَّى بالصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ للحديث المشهور: عن أبي هريرة عبدالرحمن بن صخر رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم قال: ((كُلُّ أمرٍ ذِي بالٍ لا يُبدأُ فيه بالحمد لله، فهو أجذمُ))؛ حديث حسن.
مجامع الحمد، وأحسنُ الثناء:
قال الشافعيُّ رحمه الله: أُحبُّ أن يقدِّم المرء بين يدي خُطبته وكلِّ أمر طلبَه حمدَ الله تعالى، والثناء عليه سبحانه وتعالى، والصلاة على رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال المتأخِّرون من أصحابنا الخراسانيِّين:
لو حلف إنسانٌ ليحمدنَّ اللهَ تعالى بمجامع الحمد أو بأجلِّ التحاميد، فطريقه في برِّ يمينه أن يقول: "الحمدُ لله حمدًا يُوافِي نِعَمه وُيكافِئ مزيده".
ومعنى "يوافِي نِعَمه": يلاقيها فتحصل معه، وقوله: "يكافئ" بهمزة في آخره؛ أي: يساوي مزيدَ نِعَمه، ويقوم بشُكر ما زادَه من النِّعم والإحسان.
قالوا: ولو حلفَ ليثنينَّ على الله تعالى أحسنَ الثَّناء؛ فطريقُ البرِّ أن يقول: ((لا أُحصي ثَناءً عليك، أنتَ كما أثنيتَ على نفسِك))، وزاد بعضهم: "فلك الحمدُ حتى ترضى".
وصوَّر أبو سعيد المتولي المسألةَ فيمن حلف ليُثنينَّ على الله تعالى بأجلِّ الثَّناء وأعظمِه، وزاد في أوَّل الذِّكر: "سبحانك"، والله أعلم[10].
قال ابن المبرد الحنبلي رحمه الله:
كلُّ أمرٍ لا يُبدأ فيه باسم الله ويُختمُ بحمد الله، فهو فاسدُ الوضع، رديءُ الصُّنع، لا خير فيه ولا فائدة، ولا بركة فيه ولا عائدة، فمن تأمَّل الأحاديثَ النبويَّة والكتاب والسُّنَّة، وجد ذلك في كلِّ أمر من الأُمور الدنيويَّة؛ من الأكل والشُّرب والوطء واللُّبس وغير ذلك، وكذلك الأمور الأُخرويَّة، قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [يونس: 10]، وقال عزَّ وجلَّ: ﴿ وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الزمر: 75]، وقال: ﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ ﴾ [الزمر: 74]، فأهلُ الجنَّة طُبعُوا على ذِكر الله في ابتداء كُلِّ فعلٍ في الجنَّة، وحَمْدِ الله على تمامه، وقلتُ:
احمد لربِّك في أُمُورك كُلِّها
وافزع إليه في الصِّعاب يحُلُّها
واقرع بكفِّ الذُّلِّ بابَ عطائه
مَن في الوُجُود سوى الإله يبُلُّها
وإذا الشَّدائدُ أقبلَت فانزل بِهِ
واعلم يقينًا ما سواه يفُلُّها. اهـ[11]

قال القرطبيُّ: فيجب على كلِّ مكلَّف أن يَعتقد أنَّ الحمد على الإطلاق إنَّما هو لله، وأنَّ الألف واللام للاستغراق لا للعَهد، فهو الذي يستحقُّ جميعَ المحامد بأسرِها، فنحمده على كلِّ نعمة وعلى كلِّ حالٍ بمحامده كلِّها، ما عُلِم منها وما لم يُعلم...، ثمَّ يجب عليه أن يسعى في خصال الحمد؛ وهي التخلُّق بالأخلاق الحميدة والأفعالِ الجميلة[12]. اهـ.



قال القرطبيُّ في تفسيره وفي نوادر الأصول وهو يعلِّق على حديث أنس - وهو ضعيف، بل قال بعض أهل العلم بوضعه -:

عن أنس، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((لو أنَّ الدنيا بحذافيرها في يَد رجل من أمَّتي ثمَّ قال: الحمد لله، لكان الحمد لله أفضلَ من ذلك))، قال القرطبي وغيرُه: أي لكان إِلهامه الحمد لله أكبر نِعمة عليه من نِعَم الدنيا؛ لأنَّ ثواب الحمد لا يَفنى، ونَعيم الدنيا لا يَبقى، قال الله تعالى: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾ [الكهف: 46] [13].



فائدة: اختلاف العلماء في أيِّهما أفضل؛ قول: الحمد لله رب العالمين، أو قول: لا إله إلا الله؟

اختلف العلماء أيُّهما أفضل؛ قول العبد: الحمد لله رب العالمين، أو قول: لا إله إلاَّ الله؟ فقالت طائفة: قوله: الحمد لله رب العالمين أفضل؛ لأنَّ في ضمنه التَّوحيد الذي هو لا إله إلا الله؛ ففي قوله توحيدٌ وحَمد؛ وفي قوله: لا إله إلا الله توحيدٌ فقط.



وقال طائفة: لا إله إلا الله أفضل؛ لأنَّها تَدفع الكُفر والإشراك، وعليها يقاتَل الخَلق؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أُمرتُ أن أقاتل الناسَ حتى يقولوا: لا إله إلا الله))، واختار هذا القولَ ابنُ عطيَّة قال: والحاكم بذلك قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((أفضلُ ما قلتُ أنا والنبيُّون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له))، أجمع المسلمون على أنَّ الله محمود على سائر نِعَمه، وأنَّ ممَّا أَنعم الله به الإيمان[14].



فالحمد لله على نِعمَة الحمد.. والحمد لله أن يسَّر لنا حمدَه وشُكره.



وأختم بما ذكره ابن المبرد آنفًا:
احمد لربِّك في أُمُورك كُلِّها
وافزع إليه في الصعاب يحُلُّها
واقرع بكفِّ الذُّلِّ بابَ عطائه
مَن في الوُجُود سوى الإله يبُلُّها


-------------------------------
[1] انظر: كتاب فتح المجيد ص 32 ط دار المدائن.

[2] انظر كلام الشيخ ابن عثيمين في شرحه للبيقونية.

[3] انظر: "جامع العلوم في اصطلاحات الفنون"، تأليف: محمد علي الفاروقي، تحقيق د. لطفي عبدالبديع ج 2 ص (222).

[4] انظر بشرى الكريم (1/ 3).

[5] رواه مسلم في الآداب (3985)، والترمذي في الأدب (2763)، وأبو داود في العتق (3447)، وابن ماجه في الأدب (3720)، وأحمد (19220)، والدارمي في الاستئذان (2580).

[6] رواه أحمد (15034)، والبخاري في الأدب المفرد (859)، والنسائي في الكبرى(7698)، وأبو نعيم، وقال الطحاويُّ في شرح معاني الآثار (4/ 298): جاءت الآثار مُتواترة بذلك، وأشار أحمد شاكر في مقدِّمة عمدة التفسير إلى صحَّته (1/ 62).

[7]رواه النسائي في الافتتاح (923)، وابن ماجه في فضل الحامدين (3792)، وصحَّحه الألبانيُّ في صحيح النسائي وصحيح ابن ماجه.

[8] رواه ابن المبارك في الزهد (920).

[9] مدارج السالكين م1 ص35، وطريق الهجرتين ص131.

[10] فتاوى الإمام النووي المسمى "بالمَسَائِل المنْثورَةِ"، ترتيبُ: تلميذه الشيخ عَلاء الدِّين بن العَطَّار ص (20، 21).

[11] انظر رسالته: النجاة بحمد الله، وهي فيما أظنُّ ما زالَت مخطوطة.

[12] الأسنى في شرح الأسماء الحسنى م1 ص190.

[13] تفسير ابن كثير (1/ 130).

[14] الحاوي في تفسير القرآن الكريم.

رد مع اقتباس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق